في روايتها «تانغو وموال» الصادرة أخيراً عن دار «العين» في القاهرة، تحكي الروائية المصرية مي خالد الأحداث بمواويل ومقامات غنائية، فهي تتعامل مع الكتابة بوصفها لعباً، وتفضل اللعب في المناطق التي تعرفها. في روايتها «سحر التركواز»، كان اللعب في عالم الألوان والأحجار الكريمة، وفي «مقعد أخير» انتقلت إلى عوالم الفنون التشكيلية في علاقاتها بإبداعات الفكر الإنساني. مي خالد لا تشارك المثقفين المصريين مخاوفهم إزاء مخاطر تهدد حريات الفكر والإبداع، وتقول انها لا تخشى التيار الديني في مصر. وعلى رغم خشيتها أن تتهم بالتعالي، تعترف: «لست شغوفة بالكتابة النقدية عن أعمالي». تهوى الموسيقى، وتمارس الغناء منذ سنوات مع فرقة كورال الجامعة الأميركية في القاهرة، وتعمل مذيعة في البرامج الإنكليزية الموجهة في الإذاعة المصرية. هنا حوار معها: على رغم هذا التلاقي والمزج بين الشرقي والغربي في «تانغو وموال»، وعلى رغم التعايش بين شخصيات من حضارات وثقافات مختلفة، إلا أنه كان هناك ما يشبه الصراع بين ثقافتين: ثقافة تمنح الحرية وأخرى تسلبها؟ - حين مزجت بين التانغو والموال، لم أكن أقصد الصراع بين حضارتين، بمقدار ما كنت أهدف إلى تمازجهما. الرواية فيها تعايش شخصيات من حضارات وثقافات مختلفة أحدثت توليفة ما. تلك التوليفة لا يتماهى معها إلا من يحملونها داخلهم، ليس بالضرورة بواسطة الجينات، بل من طريق الثقافة، أو من طريق سر خفي أحياناً. كالشعور بأن هناك حضارة ما تناديك، تشعرين بها في نبضات قلبك حين تستمعين الى موسيقاها مثلاً، فتتحدين بالجزء المفقود منك وتصيرين كاملة. ألم يحدث لك أن توحدت والموسيقى الهندية أو اللاتينية أو الفلامنكو، على رغم أنك لم تبرحي بلدك قط؟ هذا ما أقصده دائماً من كتاباتي التي تمزج أكثر من حضارة، ويتم هذا بتلقائية، لأنه ببساطة يعبر عن تركيبتي النفسية. الرواية تكشف عن توظيف واضح لخصوصية الكاتب، فالشخصية المحورية تهوى الموسيقى، وتدرس علم النفس، وتعمل مذيعة... إلى أي درجة يمكن أن يتماهى الكاتب مع كتاباته؟ - في هذه الرواية تحديداً كانت هناك قصدية ما للعب على القارئ لكي أُشبع فيه لذة التلصص على الكاتب، فاخترت مهنة المذيعة التي ربما يعرف بعض القراء أنني أمتهنها. الطريف أن اللعبة نجحت، حتى اعتقد كثير من الناس أن والدتي أرجنتينية مثل والدة البطلة، وكان هذا اختباراً لصدق الكتابة وضعته لنفسي ونجحت فيه. «تانغو وموال» نص يتضمن مفردات وتراكيب موسيقية يصعب على القارئ العادي استيعابها. ألم تخشي المغامرة، أم أنك تستهدفين قارئاً معيناً؟ - المفردات الموسيقية التي يتضمنها النص يتم شرحها من خلال الأحداث من دون الإخلال بالسياق. قد يستغرب القارئ المفردة في البداية، وقد يكون هذا مقصوداً للفت انتباهه. وبعد ذلك يتم الشرح في شكل غير مباشر، ولا أظن أن هناك مفردة أو مصطلحاً موسيقياً واحداً لم يتم شرحه. بالنسبة إلى استهداف قارئ بعينه، أظن أنك كلما كنت على دراية أعلى بعالم المنتج الفني، سواء كان فيلماً أو أغنية أو رواية، زاد تذوقك وعمق تلقيك لها. فالذين يفهمون قواعد الموسيقى يستمتعون بالسيمفونية والأوبرا أكثر. ومن يعرفون ثقافة أجنبية ما، يتلقون الدراما الخاصة بها في شكل أعمق. المهم أن هناك «حدوتة ما»، وهي «الرواية» التي تهم القارئ العادي في المقام الأول، وهي هنا تتضافر والموسيقى والأصوات. قدمت شكلاً روائياً جديداً عبر مقاطع سردية تتخللها مقاطع موسيقية وغنائية. هل جاء الاهتمام بالشكل على حساب المضمون؟ - أهتم بالشكل كاهتمامي بالمضمون. أنظر إلى الرواية بصفتها فيلماً سينمائياً، وعبر هذا التكنيك أجدني أقوم بدور المخرج والكاتب المؤلف والممثلين أيضاً. شهدت الكتابة النسوية العربية في السنوات الأخيرة تحولاً على مستوى الكم والكيف وأصبحت قادرة على التأثير بعد أن تحولت إلى ما يشبه الانقلاب على المجتمع وموروثاته، وعلى رغم هذا يرى البعض أن كتابة السيرة الذاتية والتي منحت المرأة فرصة استعادة ذاتها من الهامش هي مرحلة لم تتجاوزها المرأة الأديبة؟ - وهل تأتي السيرة الذاتية منفصلة عما يجري في المجتمع... السيرة الذاتية هي سيرة أسرة ووطن وبلدان أخرى. هي نتاج خبرات متراكمة للراوية ومن أثّروا فيها ممن سبقوها وتزامناً معها. وربما يحدث الخلط دائماً بين السيرة الذاتية والرواية المكتوبة بضمير المتكلم، وهي الأكثر شيوعاً فيتم الخلط بين البطلة والكاتبة. في «الباب المفتوح» عرضت لطيفة الزيات لقصة نضال شعب، لكن من منظور نسوي عبر قصة حب اقترنت بحرية وطن. هل تهتم المرأة بالخاص على حساب العام ما يجعلها تبدو وكأنها منفصلة عن الأحداث الكبرى؟ - المرأة أكثر ميلاً إلى تحليل الأمور، وخصوصاً التحليل النفسي، وأكثر ميلاً إلى الغوص في أعماق الأشياء والبحث عن التفاصيل. عندما تكتب المرأة عن ذاتها، ألا يعطي هذا خبرة للآخرين تفيدهم في شكل شخصي، قراءة ما يكتب عن الذات قد تمنح القارئ فرصة للتنفيس عن النفس عندما يجد نفسه تتماهى في شكل أو في آخر مع شخوص العمل، فضلاً عن أنها تكسبه خبرة حياة. المرأة ليست منفصلة عن الأحداث الكبرى أو السياسية، عادة ما تكون لديها صورة متكاملة، لكن ترتيب هذه الصورة يأتي ضمن أولوياتها هي. الحديث عن العام في شكل مباشر لم يعد ميزة. الكتابة عن العام يجب أن تتم من خلال ذائقة فنية تصوغه في قالب شخصي. علاقتك بالكتابة بدأت بمحض الصدفة؟ - صحيح. أهوى الرسم في المقام الأول، وكنت قد تقدمت لشغل وظيفة رسام كاريكاتير في مجلة «القافلة» الأسبوعية التي يصدرها طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة. قبل هذا بقليل تعرضت لحادث سرقة داخل الحرم الجامعي، ما أثارني بشدة وجعلني أكتب تحقيقاً عن الموضوع كنوع من التعبير عن التذمر مما حدث ليس أكثر، إلا أنهم قرروا تعييني محررة في المجلة وليس رسامة. يحظى العمل الأول في حياة كل مبدع بمكانة خاصة، كيف تنظرين إلى بداياتك؟ - في واقع الأمر أنا أعتبر كل عمل هو عمل أول، لأنني أحرص على أن يكون جديداً في موضوعه وتقنية الكتابة والتناول العام. هذا أفضل، لأنني حتى وأنا أكتب العمل الأخير، أدخل فيه بروح الهاوية المغامرة التي على رغم ما تبدو عليه من جرأة، فإنها تخشى العواقب وتترقب ردود الأفعال في قلق وتوجس. المتتبع لأعمالك يلحظ انشغالاً واضحاً بممارسة ما يشبه التحليل النفسي لشخوص العمل وبخاصة الشخصية الرئيسة، لماذا؟ - من دون فهم الدافع الخفي والخلفية الوجدانية للشخصية لن يتم التفاعل معها بالشكل اللائق، وأظن أن ولعي بعلم النفس هو ما يجعلني أفتش عن الأجزاء المخبوءة في دهاليز الروح. ألهذا السبب يرى بعض النقاد أن مي خالد أديبة نفسية أكثر منها روائية؟ - لست من هواة قراءة الكتب، أو إعادة قراءتها من أكثر من منظور، تعلمت الكتابة من الدراما السينمائية والتلفزيونية وليس من الأدب، خصوصاً دراما أسامة أنور عكاشة. أحاول صنع رواية جيدة عبر بناء درامي جيد يسعى إلى ابتكار شخصيات نصية هي مزيج من شخصيات بعضها عرفتها وتعايشت معها وأخرى في سياق معرفة تحمل في إحدى جوانبها الأساسية بعداً إنسانياً ونفسياً يجعلها مقبولة لدى القارئ. ممارسة الكتابة، ماذا تمثل بالنسبة إليك؟ - أكتب كي ألعب وأستمتع بممارسة فعل الكتابة، وأتعامل معها بوصفي هاوية. بعد الفراغ من كل عمل أشعر أنني كتبت كل ما لدي وآخر ما عندي. لا أسعى إلى الكتابة، بل أتركها حتى تأتيني، لأنه حتى في أوقات التوقف عن الكتابة ثمة كتابة محتملة. هل تعتقدين بوجود وظيفة للأدب؟ - كوني هاوية لا يعني أنني لا أؤمن بأن للأدب وظيفة. حتماً هناك وظيفة، وهي وظيفة مزدوجة، فهي من ناحية تُمكنني من تقديم رسالة ولتكن جمالية أعبر من خلالها عن ذاتي، ومن ناحية أخرى، وهذا جانب فرعوني صرف تتيح لي فكرة التحقق وتخليد الذات من خلال الكلمة بوصفها أكثر الأشياء استدامة. هل تعتبرين نفسك من الكاتبات اللاتي حظين بالتفات نقدي جيد؟ - أخشى القول إنني لست شغوفة بالكتابة النقدية عن أعمالي ولست شغوفة أيضاً بمناقشتها في الندوات والأمسيات الثقافية. تكفيني وترضيني كلمة أو رسالة تصلني من قارئ يقول فيها إنه قرأ لي رواية أو مجموعة قصصية وأعجبته. مسألة النقد في عالمنا العربي هي مسألة حظوظ، وأنا أعتبر نفسي من الكاتبات اللاتي حظين بالتفات نقدي جيد، ففي ظل حالة من الصخب العام، فضلاً عن صخب خاص على مستوى النشر خصوصاً في السنوات الأخيرة، أصبح الناقد نفسه في حاجة الى من يرشح له الكتاب الجيد – شأنه في ذلك شأن القارئ - حتى يتحمس له. المشكلة هي أن تناول النقد لأي عمل يتم عادة من خلال النظر إليه بصفته عملاً مفرداً. هناك قلة من النقاد يتعرضون لعمل إبداعي نسوي في سياق مشروع متكامل. في «سحر التركواز» تناولت عالم الألوان، وفي «مقعد أخير» عرضت لعوالم الفنون التشكيلية وعلاقتها بإبداعات الفكر الإنساني، وأخيراً «تانغو وموال»، هل أنت شغوفة بالتجريب؟ - التجريب عموماً، وليس على مستوى الأدب فقط، يعطي الحياة قدراً كبيراً من البهجة. ماركيز يقول: «أكتب عما تعرفه» وهذا ما أسعى إليه، وأضيف مقولة خاصة بي: «أكتب عما تحبه». في ظل تزايد نفوذ التيار الديني، هل تشاركين مثقفين مصريين مخاوفهم إزاء تضييق محتمل على الحريات؟ - لا، فطبيعة الحياة الثقافية في مصر لن تمكن هذه الجماعات من تحقيق ذلك. اللافت أن حوادث وقعت في الآونة الأخيرة مثل حادث تغطية وجه تمثال أم كلثوم والتي أثارت مخاوف كثر وكأن الغاية هي إلهاء المثقفين وإبعادهم عن قضايا أكثر أهمية. هذه الحوادث تقع وتثير ضجة وينتهي الأمر من دون الوصول إلى الفاعل الحقيقي. ربما يكون الأمر بعيداً تماماً من الجماعات الدينية، بخاصة أن واحدة من هذه الجماعات لم تعلن مسؤوليتها عن الحادث، وربما يكون من فعلها لا يعي أصلاً معنى تقييد الحريات أو التضييق عليها، وكل هدفه هو إحداث فتنة.