تُظهر أطروحة الباحث عادل غباشي التي نال عليها درجة الدكتوراه من جامعة أم القرى، والمعنونة «المنشآت المائية لخدمة مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة في العصر العثماني»، عدداً من الحقائق حول المياه ومكةالمكرمة هي: أولاً: أن مكةالمكرمة بلد حُرِمَ من المياه الجارية على سطح الأرض، فكان طبيعياً أن يلجأ ساكنوها إلى استنباط حاجتهم من الماء من باطن الأرض بواسطة الآبار، وقد دأب حكامها على تدبير مقدار مناسب من الماء لسد حاجة الناس فيها، سواء بإنشاء مزيد من الآبار التي تغذّى من الجبال المحيطة بها، أو بجلب المياه من الأماكن القريبة لها، والواقعة داخل نطاق الحرم من طريق أنابيب خاصة. ثانياً: لما قصّرت مياه الآبار والعيون الواقعة في منطقة الحرم عن سد احتياجات المدينة المتنامية، فكّر المسلمون بجلب المياه اللازمة من مصادر المياه خارج منطقة الحرم، فوُضعت المشروعات واعتُمدت الأموال اللازمة لإنجاز مد القنوات إلى مكة. وكان المسلمون يدركون صعوبة تنفيذ هذه المشروعات (لأن الطبيعة الجغرافية تحول دون وصول المياه) إلا أن المسؤولين أصرّوا على تنفيذ هذه المشروعات فكان لهم ما أرادوا، ونجحوا في إيصال المياه من أعلى وادي عرفه (منطقة حنين) إلى مكةالمكرمة، كما أوصلوا مياه وادي نعمان إلى منطقة المشاعر، ومنها إلى مكان قريب من مكة يعرف ببئر زبيدة، على رغم ضيقهم ذرعاً بمواصلة العمل آنذاك، لظهور صعوبات فوق طاقتهم. ولم يقف جهد المسلمين عند إنشاء القنوات، بل أنشأوا الكثير من المشروعات الضرورية لدرء خطر السيول عن مكةالمكرمة، فأنشأوا السدود ومجاري خاصة لتصريف مياه الأمطار الزائدة، فضلاً عن البرك والحمامات. ثالثاً: على رغم هذه الأعمال العظيمة التي قام بها المسلمون قبل العصر العثماني، إلا أن مشكلة نقص المياه استمرت قائمة، نظراً إلى اتساع عمران هذه المدينة في العصر العثماني، وأصبح أمر توفير الماء لها ضرورة حتمية تقتضيها زيادة عدد السكان والحجاج، فضلاً عن أن غالبية منشآت المياه السابقة احتاجت لإصلاح وتجديد، ولذلك اهتم العثمانيون بتوفير الماء من طريق حفر آبار جديدة في مناطق مختلفة، وإصلاح الآبار السابقة، وإنشاء قنوات لنقل مياه العيون، وإصلاح القنوات السابقة، وباختصار إقامة وإصلاح الكثير من المنشآت المائية لخدمة المدينة. ولم يكتفِ العثمانيون بذلك، بل وفّروا مصدرين أساسيين للمياه، بدلاً من مصدر واحد كما هي الحال سابقاً، فبعد أن كانت مياه وادي حنين المصدر الوحيد الذي يغذّي مكّة، أضاف العثمانيون مصدراً آخر يتمثل في مياه وادي نعمان، وقد تكبّدوا في سبيل الوصول إلى تحقيق هذا الغرض مصاعب شتى، سواء من حيث الإنفاق المالي أو إيجاد المهندسين ذوي الكفاءات العالية، ولم يقتصروا على مد قناة عين عرفة إلى الأبطح، بل أنشأوا أيضاً قناة جديدة من الأبطح إلى المسفلة تتناسب مع هذا الوضع الجديد، ما كان له أكبر الأثر في استغنائهم عن القناة القديمة لعدم صلاحيتها. ولم يترك العثمانيون مكاناً في قناة عين عرفه إلا وأعادوا فيه النظر، فأصلحوا ما احتاج لإصلاح، وأعادوا بناء ما دمّر في بعض المواضع، ومنها منطقة طريق «ضب»، التي اكتشفوا فيها عيوباً في البناء منذ عهد أسلافهم كانت تؤدي دائماً إلى تدمير القناة نتيجة اندفاع السيول واجتياحها جدار القناة، فاختاروا موقعاً آخر مناسباً لبناء القناة، وزوّدوها بكل الوسائل التي تدفع عنها أضرار السيول، سواء في شكل ميازيب سفلية أو علوية أو قناطر، كما دعموا هذا البناء بأنواع مختلفة من الدعامات. عالج العثمانيون العيوب المعمارية في القناة الجديدة، وخصوصاً في المناطق التي تكثر فيها كميات المياه، من طريق زيادة الحيّز الهوائي فيها، بحيث يسمح بمرور المياه بيسر وسهولة، وذلك من طريق رفع جانبَي القناة وبالتالي تعلية غطائها. التزم المعمار العثماني بالتخطيط المتعرّج والمنكسر للقناة بشكل دقيق، وأخذ في الاعتبار صيانة القناة وتدعيمها في مناطق الانكسارات حتى تتصدّى لتيار المياه المندفع إليها، فضلاً عن العناية بالبناء من حيث جودة لصق الأحجار وصفّها بطريقة جيدة. كان العثمانيون يبذلون جهداً كبيراً في دفع ضرر السيول من القناة في المناطق التي تختفي فيها تحت سطح الأرض وتظهر خرزاتها فوقها، فلجأوا الى بناء الخرزات بأساليب تدفع عنها خطر مياه السيول، فضلاً عن عمل دوائر ترابية عالية حول بعض الخرزات لتحول دون وصول مياه السيول إليها، وتسمى «فري». أثبتت الدراسات أن العثمانيين جدّدوا كثيراً من الخرزات، وأنشأوا أخرى، وذلك لأهداف، أهمها: سرعة تنظيف القناة وإزالة ما قد يصيبها من مسبّبات الانسداد، كالعشب والطين والرمل، إضافة إلى ضمان انسياب الماء باستمرار وعدم تجمّعه في جزء منها، ما يؤدي إلى انفجار القناة وتسرب مياهها. كما حرص العثمانيون أيضاً على صيانة القناة أولاً بأول، فكانوا يسارعون إلى سدّ الفجوات التي تحدث بين حجارتها بمجرد اكتشافها بوسائل بسيطة، كحلّ موقت إلى حين إعادة بناء المكان الذي حدث فيه الخلل. أعمال العثمانيين في القناتين الرئيستين (عين عرفه وعين حنين) لم تقفْ عند حد الإصلاحات والتجديدات وبناء بعض الأجزاء فحسب، بل تعدّتها إلى إنشاء روافد لهما لزيادة مياههما، رغبة في توفير أكبر كميّة من المياه، نظراً إلى ما كان يصيب القناتين من تعدّيات مستمرة من الأعراب، والتي أدّت إلى تدمير القنوات في بعض السنين وفقدان كميّات كبيرة من المياه.