تفيد الأسطورة بأن الملكة كليوباترا عندما حكمت مصر أكثر من عشرين سنة، أخذت غالبية قراراتها المهمة من وراء ستار، وهي في أحد الحمامات على أنغام موسيقى العازفات وهي مستلقية داخل وعاء مملوء بالماء الدافئ واللبن الممزوج بالأعشاب والزيوت العطرية. ومن هنا بدأت الحمامات تحفر أسماءها في كتب التاريخ عبر العصور. يروي شيخ المؤرخين المصريين تقي الدين المقريزي في أحد كتبه، كيف انتشرت بكثرة في مصر ظاهرة بناء الحمامات خصوصاً مع بداية الحقبة الإسلامية، حين أنشئ خلال فترة حكم الخلفاء الراشدين في مدينة الفسطاط وحدها أكثر من 1000 حمام. وكما كانت الحمامات العامة أماكن للترفيه، كانت أيضاً أماكن للتفكير والتدبير، وكثير من الأحداث التي ذكرها التاريخ وقعت بين أروقة الحمامات. وعلى سبيل المثال، تآمرت شجرة الدر على زوجها عز الدين أيبك ليقتل في حمام الخشبية بسبب غيرتها عليه وخوفها من زوجته الأولى، وكانت نهايتها هي الأخرى في الحمام على يد ضرّتها. وفي منطقة بولاق الدكرور في أحد أحياء القاهرة القديمة، يقع واحد من أشهر الحمامات الشعبية ولا يزال يفوح منه عبق التاريخ، فعمر حمام «الأربعاء» الشهير اليوم بحمام «عوكل» 500 سنة، ويتميز مدخله بشكل قوسي قببي ويزين أرضياته بلاط ذو طابع إسلامي وحوائطه يكسوها الرخام الأملس. يقول مدير الحمام عوكل النسري: «عمل والدي في الحمام منذ أكثر من خمسين سنة، وكنت أحضر معه لمساعدته واللهو واللعب، إلى أن كبرت وصرت شاباً وأحببت العمل في الحمام، وفي السنوات العشر الأخيرة طاولت يد الإهمال الحمام بسبب انصراف أصحابه عنه، فلم يشأ الورثة العمل في المهنة ذاتها كما لا يحق لهم بيعه، فهو خاضع لهيئة الآثار، فاستأجره والدي منهم. واليوم لا أعرف مهنة سوى إدارة الحمام والقيام على شؤونه والاستماع إلى حكايات رواده وشكاواهم». صمود الحمام يضيف النسري: «استطاع الحمام الصمود وقاوم كل العوامل، طبيعية كانت أو بشرية، كما ان رواده يقصدونه من أماكن بعيدة ليس للاغتسال فحسب، بل لتمضية أوقات ممتعة. ويستضيف المكان دوماً فئة من الأغنياء قادرة على قصد أفخم مراكز السونا في البلاد، لكنهم يفضلون الحمام طلباً لراحة الجسم والهدوء، والرغبة في الشفاء من بعض الأمراض الروماتزمية وآلام العظام». وعلى رغم كون الحمامات الشعبية واحدة من سمات عصر مضى، فإن الشبان والأجانب وبعض العرب الذين يزورون مصر، يقصدون الحمامات الشعبية للتعرف إليها عن قرب. ويزداد عدد زبائن الحمامات في المناسبات الدينية كالأعياد وفي الشتاء أكثر من الصيف. ويرجع عوكل النسري أسباب انتشار الحمامات قديماً إلى أن التجار كانوا يسافرون من طريق البحر والبر مسافات طويلة ومتعبة، فكانت الحمامات من أجل الاسترخاء والتخلص من عناء ومشقة السفر حتى ذاع صيت تلك الحمامات التي باتت ملتقى الحكام والتجار وعامة الشعب على حد سواء. ويستطرد النسري: «تبدأ طقوس الحمام الذي يستمر قرابة الساعتين بتسليم كل أغراض الزبون في الأمانات ويتجرد من ملابسه ويتسلّم فوطة كبيرة (بشكير) نظيفة ومعقمة وقبقاباً خشبياً، يأخذ بعد ذلك حماماً ساخناً لمدة عشر دقائق، بعدها يتعرض للبخار لمدة 15 دقيقة لفتح مسام الجسم، يعقبها حمام بارد للتخلص من العرق الذي يسد مسام الجلد. ثم تأتي مرحلة الجلوس في المغطس المملوء بالماء الساخن، يتم الاسترخاء على مصطبة مرتفعة من الرخام تجري عليها عملية التدليك التي يعقبها حمام ساخن بالماء والصابون، وبعد الانتهاء يقدم للزبون مشروب دافئ لاسترخاء الجسم». ويؤكد النسري أن الحمام ما زال يستخدم الأدوات التقليدية التي كانت تستخدم منذ مئات السنين وأشهرها كيس الصوف الخشن لسنفرة الجسم وطرد الدهون، والحجر الأحمر الذي يفرك به جلد القدمين واليدين ليعطي النعومة المطلوبة. ويقول: «قديماً لم يكن يجتمع في حمام واحد النساء والرجال، ولكن مع تناقص أعداد الحمامات، كان لا بد من أن يصبح الحمام الواحد مشتركاً بينهم مع تقسيم الأوقات فيه إلى فترتين». وتقول الحاجة عزة المسؤولة عن الفترة النسائية: «قديماً كانت من تهتم بالنساء في الحمام يطلق عليها «البلانة» وعملها تدليك جسم الزبونة وتجفيفه. وكانت النساء من الطبقات الراقية والعائلات الكبيرة تفضل حجز الحمام يوماً كاملاً ليكون قاصراً عليهن فقط من دون دخول سيدات غريبات، واليوم يحدث هذا أيضاً فتأتي مجموعة من الأصدقاء أو القريبات ويحجزن الحمام». وتضيف أن السيدات لم يعد إقبالهن على زيارة الحمام كما كان في السابق، اذ كان يصل عدد الزبونات الى أكثر من 40 سيدة يومياً، لكن اليوم في احسن الحالات لا تزور الحمام أكثر من 10 نساء يومياً. ومن أهم الطقوس في الماضي ان تنطلق زفة العروس من أمام باب الحمام إلى منزل الزوجية لأن العريس وعروسه كانا يزوران الحمام يوم زفافهما، وكانت العروس تأتي منذ الصباح ليتم تزيينها تزييناً كاملاً، ويأتي العريس كذلك للاستحمام والحلاقة وبعدها تخرج الزفة. وتحرص عرائس كثيرات اليوم على زيارة الحمام قبل ليلة الحنّة، فعلى رغم انتشار مراكز التجميل، لا تزال الحمامات الشعبية تتميّز بالخلطات الطبيعية والخلاصات العطرية التي لها مفعول السحر على الجسم، فبعد أن تستحم الزبونة بالماء البارد عقب التكييس تضع طبقات كثيفة من مهروس قشر الحامض والبرتقال المنقوع في الزيوت والعطور، ويُترك على البشرة لتتشربه فيساعدها على تفتيح المسام وإكساب الجسم نعومة ونضارة. وتشير الحاجة عزة الى أن الحمام عمره 500 سنة، إلا أنه لا يزال صامداً، ولكن الخوف من ارتفاع أسعار فواتير المياه وانقطاعها المتكرر، إضافة إلى ارتفاع أسعار السولار الذي يباع في السوق السوداء، والذي يعتمد عليه في تسخين الماء، من دون أن يكون هناك أي التفاتة من الدولة لحماية هذه المعالم الأثرية أو المحافظة عليها.