حسناً فعلت الشاعرة الإيرانية مريم حيدري بأن كتبت عن تجربتها بنقل قصائد الشاعر العراقي الراحل سركون بولص إلى اللغة الفارسية. لا يمكن تأكيد أنها بذلك تسلّم مفاتيح التجربة إلى القارئ، لأن هذا سيكون مناقضاً حتى لجموح الشاعر في بحثه عن قارئ وحيد متصادم مع اللغة، لا متصالحاً معها. هنا يمكن الادعاء أن ذلك قد يجيء على تجربة شعرية من بوابة الأمل المتصدع بنيل عشبة الخلود التي يبحث عن وفادتها الرخيمة شعراء قليلون يميلون إلى بناء تراكيب ونظرات مستحقّة عن عالم متشظ، وقليل الأهمية أحياناً حين تميل به اللغة نحو تجريد ضروري لابد منه في سياق تكثيف القصيدة واعتبارها رحلة في الأرواح، ووحشة الكائن في بناء مقاطع لغوية منصوبة له، وكل واحدة وفق فرادتها في نشوء الإيقاع الداخي الناظم لهذه الرحلة والمشكك أصلاً في وجودها حين لا يتاح انتزاعها من أسفار متعددة الوجوه وموقتة في اللغات. الترجمة التي استغرقت شهوراً جاءت من مجموعاته الأربع، (نحو80 نصاً) ومن المؤكد أن القارئ باللغة الفارسية سيطل من موقعه «الشخصي» على تجربة فريدة في الشعر العربي المعاصر، ليس أقلها إنها تجيء من شاعر عراقي أشوري «غريب»، وجد نفسه في تيار خارج للتو من خدر الأوزان العربية التقليدية، أو تائه كما كان يحلو لأنسي الحاج أن يسميه، وهو يعبر فيافي وقفاراً ومدناً وعواصم باتجاه ينبوع من الاستعارات الكونية المترفة في لونياتها واشتقاقاتها وكأنها كانت تفتعل سقوطاً حراً في نهر الكلمات والمكنونات الصورية والتشبيهات المكلفة في لغة كلغة بولص تنشأ هنا من «التصادم» المروّع بين الخيال، وكل تلك الصورة المشرّشة في وعي شرس جدير بها. تصادم نادر تقول حيدري إن رحلتها مع الترجمة لم تكن تريد لها أن تنتهي لأن سركون بولص بنظرته المتوحدة للعالم هو شاعرها المبجل، والمعزّز، وفي أثناء استغراقها ب «تبحير» اللغة الفارسية في مفردات وتراكيب عربية غريبة كانت تستدعي أخيلة حول طاقات الشاعر التي لا تنضب، وفي طلعات يمكن وصفها بالاستشكافية فوق لغة معزّزة بحساسية فريدة من نوعها جعلت الاستغراق في حكاية هذا الأشوري شبيهة بمحاولات قراءة نوعيّة الحركة والمجسّات الشعورّية الناتجة منها في كل صورة ناتجة من لقاء أو «تصادم» نادر بين مفردتين غارقتين في تقصّي السرعة التي يفرضها «الاحتكاك» الإجباري بين الدال والمدلول، ما يعني أن هناك مراقبة ضرورية ومستمرة من قبل الشاعرة المترجمة لا تنوي خذلان هذا النهر الذي يشق «الوديان الكلامية» أحياناً بلغة بولص نفسه. ترتاح مريم حيدري من تجربة ثقيلة ومؤلمة، لأن سركون بولص يشكّل مادة خصبة لإظهار مهاراتها في تشكيل مرانٍ لغويّ خاص بها. سبق لها أن نقلت للغة الفارسية «أثر الفراشة» لمحمود درويش في 2010، وتستعد لإصدار قصائد حب منه أيضاً قريباً، كما أنها أنجزت في وقت سابق ترجمات أدبية مختلفة من الفارسية للعربية، وصدر لها في الجزائر عن منشورات البيت مختارات للشاعر الإيراني أحمد رضا أحمدي، وكذلك مختارات من الشعر الفارسي الحديث بعنوان «شموس الروح». لم تقتصر ترجماتها على كتب منشورة، فحيدري لا تتوقف عن نشر قصائد مترجمة من الفارسية وإليها من العربية في الصحف العربية والإيرانية على حد سواء، لا بل تعمل بين الفينة والأخرى على نشر مقاطع منها عبر صفحتها الخاصة على «فايسبوك» لشعراء مثل: سنية صالح، وفوروغ فرحزاد، وقاسم حداد، وأحمد شاملو، وعناية جابر، ونازنين نظام شهيدي ونوري الجراح وآخرين. «الأشوري المجنّح» الجديد في تجربتها هو وقوعها على شعر سركون بولص - تحديداً - وكأن ما سبق وقامت به يقع في كفّة، وما تقوم به مع «الأشوري المجنّح» صاحب اليقين المتزلزل بالكون، كما تصفه يقع في كفّة أخرى. تقول حيدري إنه للانتهاء من هذه التجربة كان ينبغي تناول الحصى من الطريق بوصفها العالم اللامع من الإشارات والتفاصيل الدقيقة التي قد لاتختلف هنا مع تسمية الشاعر الراحل لها بالوحدات الشكلية المتأتيّة من نظرات عميقة ومتأنيّة للنشيد الداخلي الذي اصطبغت به رحلته الإبداعية حين نضجت في كتابيه الأخيرين قبل أن يتخلى طوعاً عن الصورة التي كانت تذهله وتقوده في رحلة عنيفة نحو اللاوعي باتجاه حشد لغوي، سماه مرة ب «تجاسيم» بمعنى تجسيد الحالات، وهي هنا تترّاص في مواجهات التشبيه الأبعد عن مناخات الصورة و»آثامها» حين يتم الاستفراد بها والمبالغة فيها. لم تختر حيدري عنواناً لترجمتها بعد. تقول إنها تخرج من تجربة مرهقة ومتقطعة الأنفاس. لم يسبق أن تملكها مثل هذا الشعور من قبل في أعمال سبق لها وأن نقلتها للفارسية. العنوان سيكون أيضاً تجربة بحد ذاته. ينبغي أن يكون من صلب نظرات سركون بولص للعالم، ويقينه المروّع حول ديمومة في الصوت وفي الإيقاع الداخلي لقصائد صنعت عالم الشاعر قبل أن يفارق الحياة في 2007 اثر اصابته بمرض السرطان. يدرك من يقرأ القصائد المختارة نوعية النظرة المطلوبة للقيام بذلك. ليس أقل من ذلك الانحياز الذهني والعاطفي لنوع من الكتابة، لا هو حسيرٌ في اللغة، ولا هو يكتفي بمغامرة خاصة قوامها التدرّب على اشتقاق الإيقاعات التي تحتاج إلى وقت طويل للولادة من صلب الحركات الداخلية التي يطرحها سركون بولص في كتاباته. يمكن أن نقرأ من القصائد المنقولة للفارسية الدلالات التي تتيح للمرء جرَّها معه إلى طاولة التشريح عبر تقديس النظرات المشغولة بإنهاء المقطع تلو المقطع، وكأن القصيدة المرشّحة بالفوز للانتقال إلى لغة ثانية وسيطة تتجاوز مسألة خلافية حول أهمية الترجمة وحيويتها، وفي الوقت نفسه الابتعاد عن المفهوم السائد حول خيانة ما تقع في صلب العملية «الخلاقة». كان سركون بولص نفسه مترجماً بارعاً من اللغة الإنكليزية، وكان يوصي دائماً بضرورة معرفة لغة ثانية معرفة ممتازة، والترجمة منها، لأن ما يحدث في الواقع ليس خيانة أو مراوغة لنص في لغته الأصلية، بقدر ما يدفع هذا المران إلى تأثيث نوع من الترصّد اللغوي في عوالم خاصة لاحقة تفيد الشاعر في دفق معانيه، وترويسها إن لجهة تسديد ضربات غير متوقعة يمكنها أن تضعه على شرفة متملك لإيقاعات شخصية مبهرة. ماسبق قد يقود إلى فهم جزئي لعوالم سركون بولص نفسها، لكن الأكيد، أن ذلك اليقين المتزلزل بالكون يظل متأرجحاً، وغير مهيأ لقبول مساحات جديدة من الثبات تعجز اللغة عن استنطاقها حين تتوافر نيات غوايتها بالانتقال إلى لغة ثانية.