الإسلام خلفاً عن سلف, أنه لا يلزم من كون القول أو الفعل كفراً بحد ذاته, أن يكفر من يقول به أو يفعله, إذ ربما يكون هذا القائل أو الفاعل متأولا أو جاهلا أو ناسيا أو مكرها كنت قد ختمت الجزء الأول من هذا المقال بما ذهب إليه ابن تيمية رحمه الله من أنه:"لا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل", لماذا؟ "لأن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع". لكن بعض المكفرين ربما يتذرعون بأنهم لا يكفرون في المسائل التي اُختلِف عليها, أو في تلك التي يُتصور وقوع الجهل والتأويل فيها, وأنهم لا يكفرون بالتالي إلا من وقع في ناقض من نواقض الإسلام, أو أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة, ويرد ابن تيمية رحمه الله على هؤلاء في(مجموع الفتاوى:347/23) بما معناه:أن القطعية أو الضرورة أمر نسبي, فما هو مقطوع به عند طائفة, قد يكون ظنياً عند طائفة أخرى, والعكس صحيح, فيقول:"كون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور(الإضافية), وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له, كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتيقن مرادَه منه, وعند رجل آخر قد لا تكون ظنية, فضلا عن أن تكون قطعية, لعدم بلوغ النص إياه, أو لعدم ثبوته عنده, أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته. وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله:إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه, والبحر برد ما أخذ منه, وقال: ما حملك على ما صنعت ؟ قال خشيتك يا رب فغفر الله له, فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد, بل ظَنَّ أنه لا يعود, وأن الله لا يقدر عليه إذا فعل ذلك, ومع ذلك, فقد غفر الله له". ولربما زعم بعض المكفرين بأنهم لا يكفرون إلا في الأصول, أما الفروع فلا يكفرون فيها, ويرد ابن تيمية رحمه الله على هؤلاء في نفس المصدر بقوله:"وجماهير أئمة الإسلام لم يقسموا المسائل إلى أصول يُكفَر بإنكارها, و فروع لا يكفر بإنكارها, فهذا التفريق بين نوع, وتسميته مسائل الأصول, وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع, ليس له أصل, لا عن الصحابة, ولا عن التابعين لهم بإحسان, ولا عن أئمة الإسلام, وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة, وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم. وهو تفريق متناقض, فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يُكفَّر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد, ومسائل الفروع هي مسائل العمل, قيل له : فتَنازُعُ الناس في محمد, هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي, أم علي أفضل ؟ وفي كثير من معاني القرآن, وتصحيح بعض الأحاديث, هي من المسائل الاعتقادية العلمية, ولا كُفْرَ فيها بالاتفاق, ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية, والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال الأصول: هي المسائل القطعية قيل: لا, كثير من مسائل العمل قطعية, وكثير من مسائل العلم ليست قطعية". وإذا كان من المتفق عليه بين أئمة الإسلام خلفاً عن سلف, أنه لا يلزم من كون القول أو الفعل كفراً بحد ذاته, أن يكفر من يقول به أو يفعله, إذ ربما يكون هذا القائل أو الفاعل متأولا أو جاهلا أو ناسيا أو مكرها, أو لديه أي مانع من موانع التكفير, فإن ابن تيمية رحمه الله يذهب إلى أبعد من ذلك, إذ يرى أن تكفير المعين, لا يلزم منه أنه يكفر كفراً يخرجه من الملة, فيقول في مجموع الفتاوى(348/23):"وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد: كفرت بالله العظيم, حين قال حفص: القرآن مخلوق, فإنه أرد أن يبين له أن هذا القول كفر, لكنه لم يحكم بردة حفص بمجرد قوله ذلك, لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها, ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله, وقد صرح في كتبه,(=الشافعي) بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم".ويضيف شيخ الإسلام في ( مجموع الفتاوى:12/264)" وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك, مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي, وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة, وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه. ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف, وكذلك لبعضهم في قتال بعض, ولعن بعض, وإطلاق تكفير بعضٍ, أقوال معروفة". ثم يأتي بأمثلة من الأقوال الكفرية التي قال بها بعض السلف فيقول:"وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ) (بل عجبتَ) ويقول : إن الله لا يعجب. فهذا قد أنكر قراءة ثابتة, وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة, ومع ذلك, فقد اتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة. وكذلك أنكر بعض السلف حروف القرآن, مثل إنكار بعضهم قوله تعالى:(أفلم ييأس الذين آمنوا), وقال:إنما هي (أو لم يتبين الذين آمنوا). كما أنكر بعضهم قراءة قوله:(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ), وقال:إنما هي( ووصى ربك). وبعضهم كان يحذف المعوذتين, وآخر يكتب سورة القنوت, وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر, ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا, وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر". و"وأيضا فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة, فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأسا, ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل, لم يعذبه إلا على إنكار, ما قامت عليه الحجة الرسالية". والخلاصة من كلام شيخ الإسلام, أنه لا يسوغ تكفير المسلم إلا بعد أن تقوم عليه الحجة," فمن لم يبلغه العلم في ذلك عُرِّف ذلك, كما يُعرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام, فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم فهو كافر". ولكن السؤال هنا: كيف تقوم الحجة على من أتى بأقوال أو أفعال كفرية حتى يسوغ تكفيره وإخراجه من الملة, وقبل ذلك, من له الحق في قسر هذا المخالف على الاستماع إلى الحجة؟ وللمقال بقية.