دعوة أفكار مختلطة في رواية ج م كوتسي الأخيرة «طفولة يسوع» تجمع الروحي، الرجعي، الاستبدادي والآلي من دون رؤية واضحة. الكاتب الجنوب أفريقي يترك البعض من نفسه في رواياته منذ فاز بنوبل في 2003. في «إليزابث كوستيللو» قارن الثورة الصناعية بالمحرقة، وبشّر بحقوق الكلاب التي رقّ قلبه لها في تحفته «العار». في «الصيف» التي كان بطلها روائياً راحلاً «ضئيلاً غير مهم» من جنوب أفريقيا يدعى جون كوتسي نادى بإغلاق المناجم، حلّ القوات المسلّحة، إلغاء السيّارة، فرض الطعام النباتي وتعميم قراءة الشعر ونشره في الشوارع. في «طفولة يسوع» يشكّل الكاتب عالماً جديداً شعاره إماتة الحواس. يصل رجل في وسط العمر وطفل في الخامسة إلى مدينة نوفيلا في بلاد يحجب اسمها. يهربان من معسكر في الصحراء حيث يتعلّمان الإسبانية، لغة البلاد، ويتعهّد سيميون ديفيد حين يفترق عن والدته في الباخرة ويضيع. كانت أعطته رسالة تحوي اسمها، لكنه فقدها. تبدو المدينة باردة، لا مبالية أولاً ثم تنكشف ثقافتها المختلفة. يقدّم لهما مركز الإسكان غرفة مجانية لكنه لا يعثر على مفتاحها. ينامان في العراء ويعودان متعبين إلى المركز ليجدا كل الغرف مشغولة. تتغير الحال سريعاً. يحصل سيميون على وظيفة حمّال في المرفأ براتب صغير ويبدي زملاؤه الطيبّون، المجدّون لطفاً فائقاً تجاه ديفيد. لكن عقول أبناء نوفيلا تسير في اتجاه آخر. يقول سيميون إن أكياس الحبوب التي يحملها العمال من السفينة تفرغها الرافعة في عُشر الوقت يسأل الناظر عن الهدف. ذلك ممكن في حال الطوارئ فقط، كنقصان الأغذية مثلاً. تعتمد المدينة العربة والحصان وسيلة للنقل، وتفرض الحمية النباتية، وتتيح التنقّل وحضور مباريات كرة القدم مجاناً للجميع. يبدو أهل المدينة نماذج معدّلة، مكيّفة للجنس البشري. يضجر سيميون من سندويش الخبز ومعجون الفاصوليا فيُنصح ب «تجويع الكلب»، ويكتشف أن لا بديل سوى الجرذان. يتحرّش بامرأة فتعجب وتقول باشمئزاز إنه يريد الإمساك بها بقوة ودفع جزء منه داخلها. يسأل عن دار بغاء لدى انتهاء العمل، ويُفاجأ بتفضيل زملائه صفوف الفلسفة عليه. يقنعونه بمرافقتهم إلى المعهد فيخرج مشمئزاً. لا تروقه الأفكار والتساؤلات المجرّدة من نوع: «ما الذي يجعل الكرسي كرسياً؟» في «صالون كونفور» يُطلب منه ملء استمارة للقاء بنت هوى وطبيب نفسي، ويعرف أن عليه انتظار الموعد أسابيع. يرتبط بعلاقة مع إيلينا، والدة صديق ديفيد الوحيد، فيدل. كانت معلّمة موسيقى اعتبرت الجنس مجرّد تلبية لحافز غير مثير للاهتمام في تكرار لشعور أليف في أدب كوتسي. «وما الذي يود تحقيقه في أي حال مع إيلينا، امرأة بالكاد يعرفها، ووالدة صديق الطفل الجديد؟ هل يأمل بإغوائها؟ وفق الذكريات التي لم يفقدها تماماً إغواء أحدنا الآخر أمر يفعله الرجال والنساء. هل يصرّ على أولوية الشخصي (الرغبة، الحب) على العام (النية الحسنة، نزعة الخير)؟ وكيف يمكن التمييز هنا بين الشخصي والكلي؟». يذكّر الفصل الأول بالمعتقلات والبيروقراطية البغيضة في «حياة وأزمنة مايكل ك» التي نال عليها جائزة بوكر في 1983. بلغ الجميع نوفيلا بالطريقة نفسها، ونسوا طفولتهم بطريقة ما. يستنكرون بحثه عن أسرة ديفيد، ويؤمنون كالبوذيين بضرورة التطهّر من الروابط القديمة. يقتنع سيميون لسبب ما بأنه سيتعرّف إلى والدة ديفيد حين يراها. يصحب الطفل إلى حديقة عامة ويشاهد امرأة بثياب محتشمة تلعب كرة المضرب مع شقيقيها. يقرّر أنها والدته ويمنحها شقّته وينام في العراء، لكن إينيس تتشدّد في التربية وتتسبّب بنكوص ديفيد، فيحاول التدخل لمساعدة الطفل على الاندماج في محيطه. يبدو غريباً ألا يتذكّر ابن الخامسة اسم والدته، لكن ذلك يخدم رمزية الرواية والدور الذي يستعد ديفيد له. تبرّأ يسوع من والدته في عقده الثالث، فلمَ لا يفعل طفلاً؟ يرفض الطفل العنف ويقدّم وجنته لأترابه ليصفعوه، ويقول إنه يستطيع بعث الموتى. يتسبّب بالفوضى، ويُطلب منه الكتابة على اللوح: «علي قول الحق» لكنه يكتب: «أنا هو الحق» ويقول إنه سيكبر لينقذ البشر. لا يعمل ذكاؤه دائماً، ويعجز عن معرفة نتيجة جمع خمس أسماك وثلاث منها. قبل أن ترسله المدرسة إلى مؤسسة مختصّة يبرهن أنه يستطيع التعلّم بالقراءة من «دون كيشوت»، وفي النهاية يتعاون سيميون مع إينيس لإنقاذه من السلطة. يقابل برود كوتسي وذهنيّته هواجس الرغبة والسلطة التي تهدّد تحكّم المرء بنفسه، وتُبرز «طفولة يسوع» نكوصاً إلى هيبيّة غير عقلانية وتوقاً روحياً يشمل إماتة الغرائز، أي أساساً طبيعة الإنسان. في خطاب ألقاه حديثاً لمتخرجين جامعيين حضّ الشباب على العودة إلى المرحلة الابتدائية «المفيدة للروح». في آخر أعماله يخلص كوتسي لتعاليم جديدة قديمة يشك معها القارئ مرة أخرى في أنه لم يعد هناك مكان واسع للأدب وسط الحذلقة الفلسفية والأفكار الغريبة. آخر الحصاد هل تكون «الحصاد» آخر روايات جيم كريس؟ بعد المراجعات السلبية لروايته العاشرة «مستشفى الأمراض الوبائية» في 2007 قال الكاتب الإنكليزي إنه سيعتزل بعد ثلاث سنوات تجنبّاً لمصير الكتاب المتقدين في السن الذين تتجاوزهم الموضة فلا تجد أعمالهم غير ناشر ثانوي يعطيهم دفعة أولى ضئيلة. هل يستطيع حقاً أن يضع قلمه في الجارور في السابعة والستين ويدير ظهره؟ قالت «نيويورك تايمز» عن «مستشفى الأمراض الوبائية» إن القارئ لا يستطيع إلا أن يتوقّع المزيد من الفن وجيم كريس، واتهم دائماً بأن خياله يفوق فعله. روايته الحادية عشرة عن يوتوبيا في القرن الثامن عشر لا يتعدّى سكانها ثمانية وخمسين مضت قرون على وجودهم المتوارث فيها. يسمّونها «القرية» ببساطة، ويعتبرون الراوي وولتر ثِرسْك الذي يعيش بينهم منذ اثني عشر عاماً دخيلاً. التزموا حياة رتيبة، شبه وثنية في غياب الكنيسة، وانتخبوا «ملكة جمع بقايا الحصاد» وشربوا البيرة. يرتبط معظمهم بقرابة، وتبعد أقرب بلدة - سوق يومين بالعربة. يجاهدون ليعيشوا من الزراعة والماشية، ويبقى الشتاء موسم الجوع حتى في سنوات الحصاد الكريمة. كانت الغلّة بخيلة هذه السنة، على أن القرية بدأت انهيارها منذ مجيء ثرسك مع كنت الذي ورث القرية عن زوجته. يعجز كنت عن مواجهة قريبه إدموند جوردان الذي يحتلّ القصر ويخطّط لتسوير الأرض المشاع وتحويلها مرعى لغنم. عندما تُقتل فرس كنت يستغلّ جوردان إيمان الأهالي بالغيب، ويقبض على «الساحرات» اللواتي يشملن ليزي، عشيقة ثرسك، و «ملكة جمع بقايا الحصاد» ابنة الرابعة. يصل رجلان وامرأة ويستقرون في كوخ خارج القرية. يأتي أيضاً رجل باسم، معوّق، ذو لحية مدببّة يهندسها بالشمع ليسرح في القرية ويرسمها. يشكّون في أنه متورّط في مخطّط حرمانهم من أرضهم، لكنه يسلك بشهامة ويدفع ثمن طيبته. يتصاعد عمودا دخان من الكوخ وإسطبل القصر فيهجم السكان على الغرباء الثلاثة، ويتّهمونهم بالسرقة وإشعال النار عمداً. يحلقون شعر المرأة ويضعون رأسي الرجلين في المقصلة مع إدراكهم أن الثلاثة بريئون. يقول ثِرسْك إنه ينتمي إلى قوم لا يؤذون، لكن ذلك الصيف ينتهي بالقتل والاغتصاب والتشويه. هو نفسه يثير شك الأهالي الذين اعتقد أنه واحد منهم، ويبدو فجأة بشعره الأسود بين الأهالي الشقر نذير شؤم. يتواطأ شعورهم بالذنب مع قدرة جوردان الفائقة على الشر لتدمير القرية التي اكتفوا بحياتهم «النحيلة» فيها قبل ظهوره. رأى ثِرسك أنه ليس غريباً أن يشعر المرء بحاجة إلى حماية عالمه الصغير حين يعيش في مكان ناءٍ كهذا حيث الثروة قليلة والهمّ ينحصر بوضع وجبة واحدة يومياً على المائدة. لكن السكان القلائل اتحّدوا بسرعة عند التهديد وقسموا العالم «نحن» و «هم». «حصاد» قصة رمزية للعالم في كل زمان ومكان. بأثريائه الذين يحاصرون فقراءه. بأقويائه الذين يدوسون ضعفاءه. بطامعيه الذين يفترسون وديعيه. النهاية واحدة غالباً، وكريس لا يغيّر النهاية.