يعرض الكاتب الإماراتي محمد عبيد غباش في كتابه الجديد «غفوة عند الذئاب» (دار العين للنشر) تجارب ورحلات كثيرة برفقة مجموعة من الأصدقاء. ولعلّ أبرز ما يميز كاتب هذا النوع من الأدب، أدب الرحلات، أنّه عابر سبيل، يدوَّن ما يراه بعينٍ لا تنتمي إلى المكان. وإذا كان العرب، قديماً، قد عرفوا «أدب الرحلات»، إلا أنه أصبح، في العصر الحديث، شكلاً فنيًا داخلاً في الأدب، وليس دراسة تاريخية وجغرافية كما كان من قبل. ولكن، على رغم حداثته هذه، يبقى للمكان حضور قوي قد يسيطر أحياناً على حضور الراوي. فالمكان هنا ليس ترفاً أو عنصراً روائياً يكتمل السرد به، إضافة إلى الزمان، الشخصيات، المنظور والعناصر الأخرى، ليجتمعوا في ظلّ الأسلوب الذي يحيل تلك المشاهد إلى مكان آخر، ربما ليس أكثر واقعيّة، ولكنه بالتأكيد أوسع أفقاً وأبعد مدى. قد يتساءل القارئ، لماذا قد يترك الإنسان بيته وأولاده لينام على سرير في فندق، ثم يذهب لرؤية حيوانات حبيسة الأقفاص، أو ليتبضّع في الأسواق، أو ليمضي النهار قابعاً على مقعد في بهو الفندق يحتسي القهوة؟ أما الأجوبة فهي داخل الرواية - الرحلة. مواقف كثيرة يعرضها الكاتب/ الراوي، خلال أسفاره كالتحدث بلغة الإنسان الأول في الكونغو، ونبش صناديق القمامة في الدنمارك، والتنقيب عن بقايا حفل شاه إيران قرب شيراز، والتهام الحوت في ألمانيا، وشمّ الحشيش في سهل البقاع اللبناني، والجلوس مع القائد الرواندي ذي الظهر الفضي وهو يتناول المشروب، والالتقاء بحسناء معصوبة العينيين تجلس تحت شمس الكاريبي تهتف له بجرأة، وتلقّي الضربة القاضية من بنيامين نتنياهو في دافوس. لم يكن البطل يسافر كثيراً ليجرّب أسرّة الفنادق كما يفعل الكثير من المسافرين. بل كان، في الواقع، يطير بعيداً إلى تجربة جديدة تستحق أن تُعاش وأن تروى، ولو أرغمه ذلك على أن يغفو عند الذئاب! بدأ الراوي السفر بين قارات العالم بشكل متواضع؛ رحلة بحرية نفد فيها الوقود، ورحلة بريّة مع سبعة أصحاب إلى كثبان رملية لا تبعد كثيراً عن المدينة. رحلتان انجلت فيهما حقائق مَحَتها حمّى الصراع اليومي على لقمة العيش. يعود المكان إلى الواجهة، بحيث تختصر الصورة مرحلة زمنيّة ربما طالت أو قصرت، لكنها بقيت العلامة الفارقة في حياة تلك البلاد في ذلك الزمن. فنقرأ لنرى ما لم نشهد. تتحدّث المباني عن شعوب رحلت، وتحرّك الموسيقى الرضيع في مهده وتجعله يهز رأسه. وفي الكونغو، بعدما عجزت الأفواه عن التعبير، يتكلم جندي بأصابع يديه وياقة معطفه. من ثلوج موسكو إلى ثلوج دافوس، ساعات سفر ليست طويلة. لم يكن هناك علي بابا، ولكن أكثر من أربعين «حرامي»، ومعهم العديد من الأيدي الملطّخة بالدماء. الثلج الأبيض هو هو. لكنّ القشعريرة في دافوس أوشكت أن تكون نوبة صرع. في بيروت التي تتميّز صباحاً برائحة الزعتر المنبعث من المنقوشة، إفطار الفقراء والأغنياء على حدّ سواء. وفي مصر التي يصفها أهلها بأنها أم الدنيا، ثمة اعتزاز لا يشبه أي اعتزاز في أي بلد آخر، بحيث يردّد الناس في الأحياء الشعبية: «إحنا اللي خرمنا التعريفة، إحنا اللي دهنّا الهواء دوكو». في قلب هذه الروح الضاحكة، وسط كل ما لا يضحك، يمكن لغير المصري أن يكتشف ما يجعل مصر مكاناً فريداً في العالم. رائحة المدينة هي عارض يفضح صحتها، ويكشف مقياس ريختر للزلازل. وهذا ما اكتشفه الكاتب حين حطّ الرحال في تايلاند: رائحة العاصمة بانكوك. أما القاهرة فتتخصص برائحة الكمّون المصاحب لأطعمة البيوت والمطاعم في كل الأوقات. لكنّ المدن صارت تفقد روائحها المميزة تحت وطأة رائحة أخرى آخذة في احتلال الفضاء! بعد مصر ولبنان يرتحل الكاتب إلى رواندا في قلب القارة الإفريقية، حيث تظهر الأحقاد الطائفية العربية قليلة الأهمية. ففي ماراثون الحقد في رواندا قتل 800 ألف شخص في أربعة أسابيع. مزيد من الحروب ماذا تفعل حين تكون بلداً صغيراً بقرب دول مهووسة بالحرب؟ تنقلب أرضك إلى محطة ترانزيت للهجرات الإنسانية. استقبلت العاصمة الأردنية هجرات عديدة بعد الحروب في فلسطين. وبعد تحرير الكويت، عادت أعداد كبيرة من الفلسطينيينوالأردنيين إلى الأردن قسراً. ولكن رغم المآسي الإنسانية ثمة الكثير مما يسعد الزائر لهذا البلد، بحر فريد في منخفض من الأرض، ومبانٍ بديعة حفرها القدماء في قلب الصخور. أمّا اليابانيون فيبحثون عن سرّ يجعل الإنسان بعد أن يموت ينبعث حياً ليعود طفلاً. تنتهي الرحلة. تتلفّت حولك وتسأل: مَن بقي من رفاق السفر؟ هناك رفيق اختفى منذ سنوات، متوارٍ عن الأنظار لعجزه عن سداد ديونه. الأكثر حبّاً للحياة بينهم، شنق نفسه بحبلٍ في فندق في دمشق. رفيق آخر التحق بقوى الظلام وصار يحارب أصدقاءه بكل قوة. لكنّ العزاء، أن رفاقاً له مازالوا يُظهرون له كل يوم أن الحياة أعزّ من أن تحتقر، وأن ضوء الشمس يكشف كلّ ظلام.