رحيل ياسين بقوش بهذه الطريقة أكثر من دلالة. فهو رحيل «الجمالي» أو رحيل الفرح المأمول والمحمول على متن نهفة أو دهشة أو لهجة هي هويته وهي محفّزة الضحكات على الحياة. شيء ما من الجمالي الموعود ذهب مع ذهابه. شيء ما من السخرية انقلب عليه وعلينا. شيء ما من الفكاهة أصيب بالعتمة دهماً. لقد قضى ياسين بقذيفة هاون اختارت بعماها مركبته. لم نعرف أي هاون أطلقها. ذاك الساعي إلى إدامة القتل أو ذاك الساعي إلى وضع فصل الخاتمة لعقود من انتهاك روح الإنسان وكرامته ووجهه ومعانيه! شيء ما يتحرّك في الشام ينشد الحياة بأبسط تفاصيلها كالسفر في مركبة وشيء ما يتحفّز دائماً لإيقاف الحياة بأبسط أفعالها. هي الحياة لم تعد تُعاش في الشام كما هي في العادة. شيء ما أوقفها على حاجز الوقت أو العسكر. شيء ما جمّدها في مكانها ريثما ينتهى الطاغوت من طقوسه. شيء ما في الشام لفّ الحياة في ورق جريدة أو علّبها وخزّنها وأجّلها أو جعلها «أرجوحة» للماغوط غفا فيها وانطفأ. هي الأشياء الجميلة في الشام ترحل تباعاً. فاليمام يهرب مذعوراً من أذى القذائف. والياسمين الدمشقي غاب عطره بغياب الطمأنينة. قاعة الأوبرا ملأتها سحنات الطغاة وهلوساتهم فلم يتبق متسع للمقام أو للنشيد. أهل الشام ضحايا أسيادها الجاثمين فوق تاريخها. أجمل ما في الشام غائب في ثنايا القهر المرابط على بواباتها. أروع ما في الشام أسير العسس والمباحث والأقبية. رحيل ياسين يعني في شيء منه رحيل شيء من الشام. غياب وجهه الذي أضحكنا يعني غياب سبب فرحنا بهذه الحاضرة وهذا التاريخ وهذا الشرق. مَن صوّب القذيفة إلى ياسين وحياته الضاحكة المسافرة في مركبة؟ سؤال يسأله قاض محقّق. أما نحن فنسأل، لماذا صوّب القذّاف قذيفته؟ وإلى متى يستمرّ هذا الموت المعلن مسبقاً؟ وإلى متى يظلّ بيننا هنا في المقهى المجاور والمكتب المجاور والعيادة المجاورة أناس يدافعون عن هذا الموت ومثله؟ إلى متى يظلّ بيننا على الطاولة المجاورة في المقهى ذاته أناس يمضغون لاكان ويتكئون على يونغ كأنه صديق صدوق ويصوغون لوائح الدفاع عن طغاة لا يقرأون ولا يكتبون؟ لماذا ياسين بقوش تحديداً سؤال غير وارد لأن كل الذين قضوا قبله بطرق أكثر هولاً أو أقلّ هم «ياسينات» كل على طريقته! موت ياسين بقوش في ظروف كهذه يُعيد السؤال سيلاً من الأسئلة الكافرة بالدولة القيد، بالدولة الصخرة على كتف كل طفل يولد، بالدولة التي أكرهوها العيش في النظرية والموت في النظرية، الدولة الممنوحة للحاكم الممنوعة عن أصحابها، الدولة المحصورة في شخص الحاكم الممتنعة عن صانعيها. سيل من الأسئلة التي تكفر بموروث كامل من العروبة، بجيل كامل من الاستقلالات، بحقبة كاملة من تاريخ مزوّر. كيف السبيل إلى الخروج من عنق الأسئلة المرعبة إلى «غوطة» أكثر انشراحاً وسعة؟ سؤال لن نسأله للذين أفنوا الوقت في صناعة الموت والقهر والذين رسموا موت ياسين بقوش وغيره من الياسينات بضآلتهم وصنميتهم وتخشب عقولهم. سؤال نسأله للذين يحاولون أن يصنعوا البديل لا النقيض وأن يحفظوا ماء البحيرات في أحواش بيوت الشام وعِزَبها. نسأله مطلباً، نسأله واجباً، نسأله أن يكون طريقاً وغاية. نسأله مشروعاً يمنح الشام احتمالاً لولادة من جديد توقف النزف الحالي تسمّي الوجوه تحت الأقنعة وتكشف بنور ساطع كل الذين يشربون من دم الناس حقيقة ومجاز، وكل الذين يتحفّزون لاستبدال الطاغية لو قُيّض لهم. لقد أكل النظام البائد سورية وأبناءها وبناتها وعلى الثورة أن تُعيدهم للحياة وأن تُرجع لنا ياسين بقوش ولو مجازاً لتستوي التسمية: «ثورة».