يتهاوى ما تبقى من مباني بيروت التراثية والحديثة ذات القيمة المعمارية الفنية الراقية، بشكل عشوائي، كما تهاوى الرصاص عليها لأكثر من 30 سنة. انتصرت على آلات القتل كلها وصمدت، لكن آلات الربح السريع والمضاربة العقارية والجهل الشعبي، تقضي عليها واحدة تلو الأخرى. بيروت التي تفتخر بتاريخها الثقافي والحضاري ونسيجها الاجتماعي وديموقراطيتها، وتدعو السياح إلى زيارتها على هذا الأساس، قد تصل الى يوم لن تعرف نفسها إذا نظرت في المرآة. لن ترى بحرها ولا ساحاتها ولا قرميد ما تبقى من مبانيها، ولا شرفات شققها الفسيحة، لأن الأبراج التجارية الشاهقة حجبت عنها الهواء والشمس، وخبّأت مآذن مساجدها وقباب كنائسها. قد تجد خاصرتها مكان رأسها، ورئتها أصابها السرطان بعدما قُُطعت أشجارها وما تبقى من حدائق. بيروت رحم الاندماج ونقاط التلاقي والنسيج الاجتماعي المختلط بين الطبقات الاجتماعية والطوائف (وإن تناحرت) استُئصل رحمها، فلم تعد قادرة على الإنجاب. ترى نفسها غريبة بلا أولادها وسكانها الذين لجأوا اليها من الفقر والكبت في الريف والمدن المجاورة. تشعر ببعد عمالها وموظفيها وطبقاتها المتوسطة الناشطة كخلية نحل، كأن بُترت يداها. تتلصّص حولها باكية على هجرة أبنائها وتمركزهم ضمن جزر طائفية وطبقية. وتبكي متحسّرة على أيام الحرب الأهلية حين تملكتها الميليشيات المسلّحة وتصدى أهلها للتفريق والتقسيم، مناشدة شعبها قبل المجلس الأعلى للتنظيم المدني والبلدية ووزارة الثقافة ووزارة الأشغال ومجلس النواب، إصدار قانون يحمي هويتها ويحرّرها من الميليشيات المالية التي تريد تغريب المدينة عن سكانها وعن قرارها وعن اقتصادها وعن ثقافتها وعن ذاكرتها. صحيح أن بيروت تتغير بسرعة وناسها ميالون الى التغيير ويملكون ذاكرة سمكة، إلا أن كل فرد فيها يتباهى بتاريخ مدينته ويرسم منذ نعومة أظافره بيتاً من طابقين يعلوه القرميد، ويتمنى حين ينضج أن يملك «استوديو» صغيراً في أزقتها الضيّقة. لكن غرق الناس في تأمين لقمة العيش والحياة السياسية الهشّة وجهلهم لتاريخ بلدهم المعماري المترابط مع الاقتصاد والاجتماع والثقافة، يُبعدان اهتمامهم عما يدور حولهم من تغيير لمعالم المدينة الجميلة. وحين أعيد إعمار بيروت بعد وقف النار، لم يفطن هؤلاء الناجون من الموت لحقيقة الإعمار ومدى نتائجه المستقبلية. ربما فطن بعض المثقفين والجمعيات الأهلية وهاجموا الخطط غير التخطيطية وقتها، ولكنهم لم يُشكّلوا آلية ردع قوية بحجم خطورة الموقف لوقف إعادة «الدمار». وإن نجحوا في الحفاظ على عدد من المباني التراثية مثل التياترو الكبير، فهم لم ينتصروا على الأخطاء في تقنيات التخطيط للاعمار، التي تدفع بيروت ثمنها اليوم بتقسيمها الى جزر منفصلة وطرد سكانها منها وتشويه أحيائها. وقد حذّّر عالم الاجتماع اللبناني نبيل بيهم في كتابه «الاعمار والمصلحة العامة» (دار الجديد- 1995) من هذه النتائج الكارثية على نسيج بيروت، معتبراً أن «الخطر هو أن لا تعود المدينة سكانها وهم معناها الأساس، منهم يقوم ويستقيم الاعمار ولهم». لم يناضل سكان بيروت كفاية، من أجل قرار سياسي وإصلاح إداري وقضائي ومصرفي، وإصدار قانون يحمي مدينتهم من التهميش والانعزال وبيعها للطبقة البرجوازية والارستقراطية خدمة للمضاربة العقارية والمصالح الخاصة. ولم يتمثلوا بجيرانهم الدمشقيين الذين منعوا البلدية والمهندس الفرنسي ميشال إيكوشار في العام 1963، من تدمير سوق الحميدية المكشوف الذي بني في العهد العثماني، بالتظاهرات والاحتجاجات الشعبية. مع أنه لا يشمل أي بناء مهم أو أثري على الصعيد الهندسي، الا انه مكان يحمل الكثير من الوجدان بالنسبة الى الدمشقيين. وبعيداً من دمشق المحترقة بنيران أهلها وصمت العالم، يجدر السؤال هل ستصبح بيروت متحفاً يدفع أهاليها أموالاً لدخوله أو التنزه فيه؟ أين يذهب المستأجرون الذين ترعرعوا في هذا الحي أو ذاك، وبنوا علاقات مع السمّان والقصّاب والخبّاز وبائع الصحف والفوّال والجيران الذين يحملون أسرارهم؟ أين يذهب أهالي شارع سبيرز ومنطقة القنطاري والصنائع الغنية بمبانيها التراثية والتي تقع تحت رحمة المضاربات العقارية والمستثمرين الذين يرون فيها هذه الأيام مساحةً لبناء أبراجهم الغريبة عن المنطقة وأسواقهم العمودية؟ وماذا سيحل بالقيم التاريخية والمعنوية التي تحملها هذه الاحياء؟ وأين هو صوت الاتحاد الوطني من هدم بناية «الاتحاد الوطني» أو ما يعرف ببناية ال Union؟ يبدو أن هناك بصيص أمل، من ناحية تحرك المجتمع المدني للمحافظة على تراث بيروت ومن ناحية وزارة الثقافة وبلدية بيروت وإن كانت خلفيتاهما السياسيتان مختلفتين الى حدّ التناقض، وهو ما ظهر جلياً في اختلافهما على هدم المنزل الذي عاش فيه الأديب أمين معلوف في بدارو، وانتهى الامر بصموده. لكن الجهتين المعنيتين المخولتين بتّ رخص الهدم، تؤكدان ل «الحياة» على لسان رئيس البلدية بلال حمد، ومسؤول وحدة ترميم الابنية الاثرية والتراثية خالد الرفاعي، أن إنقاذ تراث بيروت يحتاج الى قرار سياسي ومخطط من المجلس الأعلى للتنظيم المدني، وإصدار قانون يلحظ المعايير العالمية الجديدة في الحفاظ على المباني ذات القيم المعنوية والتاريخية والجمالية. ومشروع هذا القانون الذي رفع الى مجلس النواب العام 2007، ما زال ينتظر في الأدراج، لكن نأمل أن يصدر قبل موت المدينة. مع العلم ان القانون المعمول به حالياً يعود الى 1933 ولا يلحظ المباني الحديثة. حمد الذي تحاول إدارته منذ توليه منصبه، تملّك بيوت التي تاريخ بيروت، لإنقاذها، مثل بيت فيروز في زقاق البلاط، يعترف بأن «بلدية بيروت لا تملك كادراً فنياً يتمتّع بخلفية علمية لتقييم المباني وتحديد أهميتها المعمارية والمعنوية والتاريخية. لذلك طلبت بشكل رسمي من وزارة الثقافة أن تضع آلية واضحة وتحدد المعايير الدقيقة لتعزيز الامكانات قبل هدم أي مبنى»، مشيراً الى أن الوزارة تعطي تقريراً يشكل توصية لافتة في قرار البلدية لإعطاء رخصة الهدم التي يؤكدها المحافظ أولاً وأخيراً. «الأونيون» نموذج عمارة حديثة وعن بناية «الأونيون»، التي تناهى إلى مسامع سكّانها أن شركة نفط تابعة لزعيم سياسي في لبنان اشترتها بأربعين مليون دولار، بالتعاون مع مقاول لبناني كبير، يقول بلال حمد وخالد الرفاعي إن أي طلب لم يقدم بعد الى الجهات المعنية للحصول على رخصة هدم هذا المبنى الذي صممه، العام 1952، انطوان تابت، اللبناني الرائد في الهندسة المعمارية. إلا أن مقاولاً آخر يدعى علي حسون بلّغ المستأجرين القدامى، وهم 16، بالتأهب والبحث عن مكان آخر قبل نهاية 2013، بصفته المشتري الجديد الذي قرّر هدم «الاتحاد». أما المستأجرون الجدد فلم يُبلّغوا ولم يعلموا بأي تطور في هذا الموضوع. لكن حسون قال ل «الحياة» إن «المبنى يحتاج الى ترميم وترتيب والى موقف سيارات (مستأجر من شركة كتانة) وعليه مشكلات كثيرة أهمها المستأجرون القدامى». وأضاف: «أنا أتفاوض مع المستأجرين، وإن لم أُفلح فلن أشتري المبنى». لكن بأي صفة يتفاوض معهم؟ ولماذا كلّف نفسه عناء الشروع في دراسة تخطيطية معمارية وترميمية وجدناها على مكتبه؟ ولماذا هذا التكتّم على مصير المبنى الذي يقول حسون حيناً أنه قد يُهدم، وحيناً آخر إنه سيُرمّم ويحوّل الى صالات عرض لفن المفروشات العالمية المستقدمة نيويورك ولندن وباريس؟ الخطورة في الأمر أن «الأونيون» ليس المبنى الوحيد المهدّد بالرحيل، بل هناك عشرات المباني في المنطقة تباع في شكل سري جداً، ويفاجأ سكانها في ليلة «بلا ضوء قمر» بنبأ موتها أو بإعلان يروّج لتشييد برج أو مجمّع تجاري مكانها. وتسري إشاعات بين السكان، تؤكدها مصادر مطّلعة في مجال المقاولات والبناء، أن الحي الممتد من تقاطع المصيطبة- برج المرّ وحتى وزارة الداخلية في الصنائع، سيحوّل بكامله الى حيّ «ذي طابع زجاجي» حيث تنبت الأبراج الشاهقة الغريبة عن عمارة المنطقة ونسيجها. وبالفعل يؤكد المهندس طالب الرفاعي أن طلبات كثيرة قدّمت لهدم مبان في شارع سبيرز والصنائع باتجاه «نادي الأنترانيك» الرياضي، منها تلك المقابلة لمبنى الصليب الأحمر الدولي، وبناية «سناك بربر» التي «رفضت وزارة الثقافة رفضاً قاطعاً توقيع السماح بهدمها». ويحذّر الرفاعي من التلاعب بالقانون وبقرار الوزارة، تحت طائلة المسؤولية القانونية، كما حصل مع صاحب مبنى في عين المريسة، أحيل على النيابة العامة، بعدما أصرّ على هدم مبناه التراثي على رغم رفض الوزارة، فربطه الأسبوع الماضي بكابل كبير موصول بالكهرباء، وفجّره. ويؤكد الرفاعي أن هذه الحالات تحصل باستمرار في لبنان، ولن يوقفها إلا إصدار القانون الجديد الخاص بالتراث.