يعد الفارابي المولود عام 260 هجرية – 870 م في فاراب (أوزباكستان)، لأب فارسي وأم تركية، من أوائل الفلاسفة الذين أدركوا قيمة اللغة وضرورة الإحاطة بها لامتلاك ناصية العلوم المختلفة. وعرف الباحثون والمهتمون بالفكر الفلسفي الإسلامي أبا نصر الفارابي، وأدركوا مكانته وأثره في علم الخالدين من أسلافنا بما ترك لنا من مآثر في التراث الفلسفي العربي في مجالاته ومناحيه من فلسفة إلهية، وطبيعية وسياسية وأخلاقية ومنطقية، لكنهم لم يعرفوه كعالم لغوي استطاع أن يطوع اللغة لسائر الأغراض المنطقية والفلسفية والعلمية. وهذا ما تقدمه الدكتورة زينب عفيفي، أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب، جامعة المنوفية، في الكتاب الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان «فلسفة اللغة عند الفارابي». ارتحل الفارابي من موطنه إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، عندما بلغ الأربعين من عمره عام 300 هجرية، وكانت بغداد آنذاك مركزاً للحضارة العربية، فعكف على دراسة الطب والموسيقى والفلك والرياضيات وتعلم اللغة العربية وتبحر في النحو والبلاغة وتتلمذ على يد ابن السراج المعروف بتوفيقه بين مدرستي الكوفة والبصرة في النحو واتصل بالأدباء واللغويين في عصره كالتوحيدي والسجستاني، وأتاح له ذلك ثقافة لغوية عميقة انعكست آثارها على ما تركه لنا من مؤلفات طوع فيها العربية لأنماط مختلفة من المعرفة بحيث باتت مفرداتها لا يستعصي عليها معنى من المعاني في علوم عصره ومعارفه. كما تلقى الفلسفة والمنطق على يد جهابذة هذا العصر أمثال يوحنا بن جيلان، وأبو بشر متي بن يونس، الذي ترجم أكثر كتب التراث اليوناني، حتى تمخضت حياته في عاصمة الخلافة عن نشاط فكري لامع في حقول التأليف والشرح والترجمة في شتى فروع الحكمة والمنطق والسياسة والأخلاق، ليس هذا فحسب بل إن مصنفاته الفلسفية والمنطقية يبدو فيها الأثر الواضح للعلم اللغوي ككتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، وكتاب التنبيه على السعادة، وكتاب أيساغوجي، أي المدخل وكتاب القياس الصغير، ثم كتاب الحروف الذي يعد موسوعة لغوية عميقة المعنى. ويؤكد هذا تفرقته الدقيقة بين القول والنطق، إذ يقول: «القول مركب من ألفاظ، والنطق والتكلم هو استعماله تلك الألفاظ والأقاويل وإظهارها باللسان والتصويت بها ملتمساً الدلالة بها على ما في ضميره»، كما يؤكد ذلك أكثر مؤلفاته عمقاً ودراسة للغة وفقهها، فكتاب «الحروف» يعد من أكبر مصنفاته في الفكر العربي عامة، والفلسفة الإسلامية وفقه اللغة العربية بخاصة، وعلى رغم أن الكتاب يعد تفسيراً لكتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو، إلا أن بين الكتابين فروقاً ظاهرة ترجع إلى استفادة الفارابي من علوم العربية، فلم يتكئ على الألفاظ والمعاني التي جاء بها أرسطو في ما بعد الطبيعة، بل اعتمد على الشواهد العربية وأهمل أبواباً من كتاب أرسطو لم يتناولها بالشرح. وتوضح عفيفي أن تحليل الفارابي المنطقي للغة، لفت الانتباه إلى العلاقة التي لا تفصل بين أبعاد ثلاثة: اللفظة (كوعاء نظري)، والمعنى (الذي تثيره هذه اللفظة في الذهن)، والجانب الدلالي للفظة في العالم الخارجي، ولذلك كان البحث اللغوي ضرورة أولى لشرح المقولات وتحليلها، وهو يجاري أرسطو في تحديد المقولات باعتبارها أطراً عامة يمكن الاعتماد عليها في تحديد ماهية الأشياء، والأحداث. وأدرك الفارابي منذ فجر الفكر الإسلامي أن البحث الفلسفي لكي يكون مقبولاً ومفهوماً، فيجب أن يقدم له بتوضيح لغوي، وأن الإحاطة اللغوية ضرورية للعمل الفلسفي، وتتبع الفارابي تاريخ المصطلحات ونشأتها وتطورها، لأنه أراد أن يشرح معاني المصطلح الفلسفي في العربية وغيرها من اللغات، وأراد أن يعرف كيف انتقل المصطلح من اليونانية والسريانية إلى العربية، وكيف يتسرب المصطلح من أصله وهو معنى عام ليتحول إلى معنى اصطلاحي خاص. ويميز بين معاني اللفظ الواحد وبين تدرجاته الطبيعية والمنطقية والماورائية. فلم يعد المقصود مع الفارابي اللفظ بحد ذاته، إنما المعنى المطابق للحد أو التصور أو البرهان الفلسفي، وهذا الموقف قلب نظام العلاقة بين اللفظ والمعنى عند النحويين فأصبح المعنى متصدراً المقام الأول. وعند استعماله للكلمة اليونانية كان يذكر ما يقابلها بالعربية مثل لفظ الحكمة والفلسفة، والعنصر والهيولي والمادة، كما لجأ إلى التعريف اللغوي والاصطلاحي لتقريب المعاني. والفارابي عندما يتكلم عن علاقة المعقولات بالألفاظ يشير إلى أن الألفاظ تدل على المعقولات، والمعقولات تدل على الألفاظ، فهناك علاقة وثيقة بين اللفظ ومحتواه المعقول، أي بين الفكر واللغة. ويرى الفارابي أن علم النحو يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق إنما يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها. فالنحو يعنى بالتعبير اللغوي، أما المنطق فإنه يعنى بمعاني الأفكار والأقوال. وترى الدكتورة زينب عفيفي أن فلسفة اللغة عند الفارابي هي المدخل الأساسي لتصحيح مسار الفكر الإسلامي، والفلسفة عند الفارابي هي أساس بناء الدولة، واللغة الفلسفية هي إحدى وسائل نهضة هذا البناء ودعمه وتجسيده. إنها تاريخ تعبئة الموجود في مفاهيم مجردة، ومتى كانت الفلسفة حية في كيان ثقافي كان ذلك دليلاً على حضور الوجود فيه.