للوهلة الأولى يبدو الأمر بديهياً لا يحتاج الى تذكير بين الحين والآخر. ولكن في لبنان، بلد العجائب والذاكرة القصيرة، يبدو من الضروري لإعلامي من طينة نديم قطيش ان يذكّر به مشاهدي برنامجه الفذ «دي أن إي» بين الحين والآخر. من الضروري لقطيش ان يؤكد ان هناك أرشيفاً في العمل التلفزيوني مهمته ان يكشف الأكاذيب ويفضح التغيّرات الصاخبة في المواقف، ولا سيما حين يقترفها اهل السياسة وربما أهل الإعلام ايضاً. والأرشيف هنا هو دائماً بالصوت والصورة. ويعرف متابعو البرنامج القطيشي الناجح والذي يقدّم خمس مرات في الأسبوع على شاشة «المستقبل» اللبنانية، ان الإعلامي الشاب يعرف تماماً في برنامجه كيف يستخدم الأرشيف في شكل دامغ لا يُحوجه في مرات كثيرة الى أيّ تعليق. لا يمكن القول طبعاً ان استخدام الأرشيف امر جديد في عالم الإعلام. في هذا الإطار لم يخترع قطيش البارود. لكنه عرف كيف يجعله اساسياً في فقرات برنامجه مصطاداً تصريحات السياسيين مشتغلاً عليها، مقارناً بين ما كانت عليه لشهور قليلة وأحياناً لأسابيع أقلّ، وما صارت عليه بعد حين في عملية توظيف أيديولوجي تفضح اول ما تفضح ما يمكن قطيش ان يعتبره «استغباء السياسيين» لجمهورهم، قبل استغبائهم لجمهور خصومهم... وفي يقيننا ان في الإمكان هنا ان نضع الأمر برمّته في خانة انتصارات التلفزة، إذ نعرف ان الذاكرة قبلها كادت تكون مخفية تماماً، حيث كان في وسع السياسي ان يكذب كما يشاء، يزوّر مواقفه كما يشاء، زاعماً دائماً ان الذين نقلوا عنه انما نقلوا ما لم يقله مزوّرو كلامه وما شاكل ذلك. مع التسجيل التلفزيوني القاطع لم يعد «التراجع» مقنعاً، ولم يعد في وسع السياسيين وأشباههم ان يكذبوا. فهم هنا، صوتاً وصورة، من فمهم يدانون وعلى ألسنتهم يُفضحون وملامح وجوههم تساهم في جعل ذلك ممكناً. فقط كان الأمر في حاجة الى إعلامي يوظف ذلك كله في شكل خلاق ويعرف كيف يحول مواد كانت تعتبر منسية مخبوءة مسكوتاً عنها، الى أداة لقول السياسة في أشكال أخرى. من جديد، لم يكن نديم قطيش الأول... لكنه حتى الآن يمكن اعتباره اعلامياً عرف تماماً كيف يصطاد... ناهيك بأن الصيد الذي يمارسه لا يمكن اعتباره صعباً. هو صيد سهل في بلد اعتاد سياسيوه الكذب فيه، من دون ان ينتبهوا الى وجود «آلة كشف الكذب» الحديثة التي هي الصورة التلفزيونية المحفوظة في أرشيف لا ينضب... ومن هنا يتصرفون على سجيتهم من دون ان يدركوا خطورة ان ثمة دائماً من يقف لهم بالمرصاد محوّلاً تصريحاتهم ومواقفهم الى سلاح ضدهم يستخدمه على هواه وحين تدعو الحاجة... في ألعاب سياسية مشكلتها الوحيدة انها تحاول فرض نفسها في بلد لا يزال الجمهور العريض فيه عصيّاً على التغيّر مهما كان فضح زعمائه، بصورتهم وصوتهم، صاخباً!