لم يعش اللبنانيون في تاريخهم الحديث ما يعيشونه اليوم من الكذب السياسي، بفعل تقلب المواقف ولعب السياسيين على ثقوب الذاكرة اللبنانية التي كانت احدى أهم شروط اللعبة السياسية على مدى 15 عاماً من الحرب، تلتها 15 عاماً أخرى من الحرب الباردة، فأعداء الأمس هم حلفاء اليوم، وكلما تخاصم زعيمان يتخاصم اتباعهما، وكلما تحالفا يتحالف هؤلاء الأخيرون متناسين مرحلة الخصام وما نتج عنها، حتى لو بقيت آثارها راسخة. غير ان المعادلة تبدو اليوم مختلفة، فثقوب الذاكرة لم تعد كما كان يشتهي أرباب السياسة، ويبدو أن اللبنانيين تعلموا اخيراً من تجاربهم ألا يصدقوا أي سياسي حتى تثبت براءته من الكذب والتكاذب. فالكذب بحد ذاته فن، والفنان البارع هو الذي يحصن جبهاته، وكلما صدقه الآخرون كلما أثبت براعته، وعلى قاعدة أن الكذب هو ملح الرجال، يبدو أن سياسيي لبنان زادوا من جرعة الملح، فأفسدوا الطبخة. المحطات اللبنانية بدت متحفزة لمحاربة الكذب السياسي في نشراتها الاخبارية، فلم يكلف الموظفون في قسم الأخبار أنفسهم عناء البحث طويلاً في أرشيف لم يكسوه الغبار بعد، ليقارنوا بين ما كان يصرح به المسؤولون قبل شهرين، وما يصرحون به اليوم، في استغباء واضح للرأي العام. دائماً كان يقال أن الوسط الفني فاسد لأنه خال من الصدق والصراحة والشفافية، وان فنانينا ليسوا أصحاب مواقف، وغير مثقفين ومفسدين للرأي العام لكن مقارنتهم بالسياسيين تضعهم في أعلى مراتب الصدق والأخلاق الحميدة. نجماتنا يكذبن على سبيل المثال بكل ما يتعلق بأعمارهن، وأوزانهن وثرواتهن، وهي لعبة أرقام سخيفة لا تؤثر على مسار البلد، ولا مصير الشعوب، ولا أذواق جيل الشباب. وهن يكذبن بما يتعلق بعمليات التجميل، فجميعهن جميلات من دون رتوش، وفاتنات من دون عمليات تجميل، ولشدة غباء بعضهن، فهن يكذبن صور الأرشيف وذاكرة العين الجماهيرية عن أشكالهن قبل التعديل، ويتمسكن بإصرار قاطع بجمالهن الطبيعي، الذي لا يؤذي ولا يهدم أوطاناً، ولا يفرق أمماً. بينما يكذب السياسيون فيجملون واقعاً مهترءاً ليبرروا سياساتهم السابقة واللاحقة. نجومنا الكبار منهم ومن لايزال يحبو ليصل إلى النجومية يكذبون بشأن أسعار حفلاتهم ليزيدوا من أسعارهم، ويؤكدوا ان الطلب عليهم كبير، بل ويتباهون بأنهم يدفعون ضرائب باهظة بسبب غلاء الأسعار التي يتقاضونها في حفلاتهم، وليس في كذبهم ما يؤثر على الدين العام، واقتصاد البلد وحجم الاستثمارات، بينما يكذب السياسيون ليزيدوا من أسعارهم الانتخابية، هذه الأسعار التي يدفع ثمنها الشعب من جيبه الخاص، ثم يسدد ديون الزعماء من جيبه الخاص أيضاً في حين تمتلأ جيوب السياسيين. الفنانون يكذبون لكنهم يساهمون في جذب السياح وإحياء العجلة الاقتصادية من خلال حفلاتهم، بينما يسهم السياسيون بتطفيش السياح عبر خلق أرض خصبة للنزاعات، يتعمدون ان تبدأ مع موسم السياحة حيث يكون الجو ملائماً للمشاحنات بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وتعكر المزاج العام. فنانونا يكرهون بعضهم البعض ويتحدثون بالسوء عن كل فنان يصعد نجمه، في محاولة للاستئثار بالساحة الفنية، وفي خلافاتهم ما يسلي، ويفسح المجال أمام حلقات تلفزيونية حامية المشاهد فيها هو الرابح الأول والأخير، وكذلك المحطات التلفزيونية التي تكسب ارباحاً خيالية من الإعلانات كلما ارتفعت حماوة الحلقة. وقد دأبت بعض المجلات الفرنسية، على تخصيص صفحات بأكملها لنشر خلافات الفنانين وآرائهم ببعضهم البعض، وبما أن الصدق عنوان الفن في هوليوود، فمن الطبيعي ان تجد فنانة تتهم زميلتها بالغباء والقذارة وصولاً إلى أبشع النعوت الأخلاقية، بينما يكتفي نجومنا بتوجيه اتهامات ضمن اطار عمليات التجميل والتنشيز، وفي كلتا الحالتين، تبقى هذه الخلافات موضع ترحيب من الجمهور، الذي يتسلى بمناوشات لا يطاله منها إلا ما يرضي حشريته. بينما يختلف السياسيون ويبدأون بتعداد «مآثر» بعضهم البعض، وحين يختلف تختلف معهم قواعدهم الجماهيرية، وهي فرصة ليكتشف اللبنانيون ما كان يخبئونه في الخفاء، حين يصبح نبش المستور عنواناً للخلاف. الكذب أمر منفر لكنه ليس مؤذياً إلا حين تطير شراراته لتتخطى دائرة المتخاصمين، حينها يصبح الجميع خاسراً. في الفترة الأخيرة حققت البرامج السياسية نسبة عالية من المشاهدة التلفزيونية وأصبح السياسيون نجوماً بامتياز، غير أن التكاذب عاد ليخطف الأضواء منهم ويعيدها إلى مكانها الطبيعي، حيث الكذب مسل ومضحك ومثير للسخرية غير المرة، والتحسر بحنين على ماض فني راق، دون قرع أجراس الخطر مما هو آت. والطريف أن معظم الساسة رجال ومعظم فناني اليوم نساء، وحين تكذب النساء لا يمكنك سوى ان تبتسم، أو ليس الكذب ملح الرّجال؟