«... موضوع الخطط موضوع جليل، تتعين الإحاطة به على كل من يحب أن يعرف أرضه ليخدمها ويستفيد منها، وأحقّ الناس بمعرفة بلد، أهله وجيرانه. ومن لم يرزق حظاً من الاطلاع على ما حوى موطنه من الخيرات، وما أتاه أجداده من الأعمال، لا ينهض بما يجب عليه ليؤثر الأثر النافع في الحال والمآل، ومَن أجدر من الأبناء والأحفاد بالرجوع إلى سجلات الآباء والأجداد، وكيف يحب المرء بلداً لا يعرفه ويحرص على سعادته ليسعد هو فيه، وهو لا علم عنده بما تعاقب عليه حتى صار ما صار إليه، وهل يفهم الحاضر بغير الغابر، وهل تنشأ في الأمة روح وطنية إذا لم تدرس تاريخها حق الدراسة...؟». بهذه العبارات التي قد تبدو لنا اليوم إنشائية بعض الشيء ولكن، شديدة الضرورة للتذكير بأن هذه الديار البائسة التي بتنا نشاهدها ويشاهدها معنا العالم يومياً على شاشات القتل والدمار كانت شيئاً آخر تماماً وحتى في الأزمان التي كانت ديار أخرى ترزح تحت ربقة الجوع والتخلف، بهذه العبارات إذاً حدد محمد كرد علي عند بدايات القرن العشرين، غايته الأساسية من وضع واحد من أهم الكتب العربية التي صدرت خلال تلك الحقبة: كتابه «خطط الشام»، الذي، إن لم يكن الأول من نوعه في تاريخ التراث العربي، فإنه بالتأكيد كان الأخير، حتى يومنا هذا، في شموليته وتفاصيله ووفرة المواد التي دنا منها، والمعلومات التي احتوى عليها. ومحمد كرد علي يقول لنا منذ مقدمة كتابه إن ما يراد بالخطط هو «كل ما يتناول العمران والبحث في تخطيط بلد بحث في تاريخه وفي حضارته، كما يقول إن فن كتابة الخطط فنٌ قديم في الثقافة العربية والإسلامية محدداً أن أول من كتب وصنف في الخطط كان الحسن بن زولاق المصري، حتى وإن كان المقريزي - صاحب أشهر خطط في التراث العربي - يرى أن الأول كان أبو عمر بن يوسف الكندي وتلاه القاضي القضاعي. وفي زمن قريب من محمد كرد علي، سابق عليه بعض الشيء، كانت هناك، طبعاً، خطط القاهرة («الخطط التوفيقية») للمصري علي مبارك. أما بالنسبة إلى كرد علي فإن «خطط الشام» في الحقيقة، «ما هي إلا زبدة الوقائع والكوائن، وأخبار الصعود والتدني، والمظاهر الغريبة التي ظهرت بها هذه الديار في غالب الأعصار». ويروي محمد كرد علي أن فكرة «خطط الشام» قد ولدت لديه، إثر النجاح والاستحسان اللذين كانا من نصيب تسعة فصول في عمران دمشق، نشرها في مجلة «المقتطف» في عام 1899 «فوقع في النفس يومئذ أن أتوسّع في هذا البحث، وأدرس عمران الشام كله، لأن صورة العاصمة وحدها لا تكفي للدلالة على حالة القطر»، مضيفا أنه من «الإشراف على الأطراف قد تُعرف صحة الجسم عامة والقلب خاصة ومن اهتم بالجزء كان حرياً أن يضاعف العناية بالكل». ومن أجل هذا يقول لنا كرد علي إنه راح يتصفح كل ما ظفر به من المخطوطات والمطبوعات بالعربية والتركية والفرنسية، قاصداً دور الكتب الخاصة والعامة في الكثير من المدن العربية وفي العالم، «كنت كلما استكثرت من المطالعة، تجلّت أمامي صعوبة العمل، هذا مع ما قام في سبيل نشر هذا المجموع من العقبات، منذ وطدت العزم على وضعه، وما نالني من الكوارث في العهد الماضي». وإذ يحدّد لنا كرد علي أنه يعني بالشام «الأصقاع التي تتناول ما اصطلح العرب على تسميته بهذا الاسم، وهو القطر الممتد من سقي النيل إلى سقي الفرات، ومن سفوح طوروس إلى أقصى البادية، أي سورية وفلسطين في عرف المتأخرين»، يبدأ بولوج مواضيع هذا الكتاب الذي استغرقه العمل عليه، كما يقول، حوالى خمسة وعشرين عاماً، إذ إن صدوره للمرة الأولى مكتملاً على النحو الذي نعرفه الآن، كان في عام 1925. في الجزء الأول من كتابه الموسوعي هذا، يتناول المؤلف تاريخ المنطقة الشامية منذ فجر التاريخ وحتى حروب الصليبيين ودولة طغتكين وبقايا السلجوقيين. وإذا كان معظم فصول هذا الجزء يتناول وقائع التاريخ المعروف، فإن المؤلف يفرد في البداية مقاطع جديدة وغنية يغوص عبرها في تعريف الشام وسكانها ولغاتها قبل أن يتوغل في تاريخها قبل الإسلام. وفي الجزء الثاني يواصل رحلته المشوقة مع تاريخ المنطقة بدءاً من الدولة النورية وصولاً إلى المرحلة المتأخرة من العهد العثماني أي حتى زمن أحمد الجزار، وهي مرحلة يواصل الحديث عنها مستطرداً في الجزء الثالث الذي يشمل نهاية الدولة العثمانية، متوقفاً هنا بعض الشيء في رأي مؤرخ تركي في أسباب سقوط هذه الدولة. وهو بعد أن يورد هذا الرأي ينتقل إلى ما كان بالنسبة إليه «العهد الحديث» فيحدثنا عن «تجزئة الشام بين فرنسا وإنكلترا» ثم ما تلى ذلك من أحداث توصله إلى «تاريخ الصهيونية وعملها الأخير» مفسّراً، منذ ذلك الوقت المبكر ما اعتبره نجاحاً لتلك الحركة نظرياً، مؤكداً أنها لن تنجح عملياً إذ إن مطالبة اليهود بالرجوع إلى هذه الديار متعذرة كل التعذر «لدثور قوميتهم، وتشتت نزعاتهم وعاداتهم، وكون اليهود يجمعهم الدين وتفرقهم الأمم، ولأن لا وحدة تجمعهم ولا يسيرون على منهج. وأخيراً لأن الأرض يمتلكها أصحابها وهم جزء من محيط عربي عظيم»... المهم بعد هذا التوقع إن كرد علي ينتقل مباشرة من تحري التاريخ و «سبر» أغوار المستقبل القريب، ليحدثنا عن التقاسيم الإدارية الحديثة، بدءاً بالعودة إلى «تقاسيم القدماء قبل الإسلام» وصولاً إلى الدول «الشامية» التي أقيمت خلال الربع الأول من القرن العشرين، وهذا ما يجعله يتوقف عند الكثير من الوثائق والمعاهدات التي كانت في خلفية وجود تلك الدول... ولئن كانت تلك «التقاسيم» وتلك التحركات السياسية، قد قسمت المنطقة الشامية إلى دول وكيانات عدة، فإن «التاريخ المدني» الذي به يفتتح الكاتب، الجزء الرابع من خططه، يبدو أشد تماسكاً ووحدة... إذ هنا يصبح من المشروع تناول المنطقة ككل واحد بدءاً من أقدم شعوب الشام وصولاً إلى الأزمنة الحديثة، فيتناول العلوم والآداب والفنون والإصلاح الفكري، ثم يتوقف مطولاً عند الفنون الجميلة وصولاً إلى فن التمثيل متسائلاً: متى ترتقي الفنون الجميلة. وبعد هذا ينتقل كرد علي إلى دراسة الزراعة الشامية ثم شتى أنواع الصناعات والتجارة. وهو يواصل في الجزء الخامس النوع نفسه من الإطلال على تاريخ الجيوش في المنطقة وتاريخ الأسطول، ثم الجباية والخراج والأوقاف والحسبة والبلديات والطرق والمرافئ، قبل أن يفرد فصلاً للبريد والبرق والهاتف فالمصانع والقصور، ضمن إطار البحث العام في مسائل الهندسة العمرانية. أما في الجزء الأخير فإن المؤلف يتناول الكنائس والأديرة ونشاط الرهبان، ثم المساجد والمدارس والخوانق والربط والزوايا والمستشفيات ودور الآثار والكتب متوقفاً أخيراً عند الأديان والمذاهب والأخلاق والعادات... خاتماً هذا كله بسيرة مفصلة لحياته، ونضالاته الفكرية والسياسية. ولد محمد كرد علي (1876 - 1953) في دمشق لأسرة كردية الأصل أيوبية الفرع أصلها من السليمانية. وهو درس العربية والتركية، ثم التحق لمدة سنتين بمدرسة الآباء اللعازاريين حيث أتقن الفرنسية. وخاض النضال السياسي باكراً مدافعاً عن بعث فكري ونهضة للوعي القومي العربي. وكانت طريقه الأولى إلى ذلك الكتابة في الصحافة، لكنه في الوقت نفسه كان موسوعيّ الفكر والاهتمامات... ولقد عانى كثيراً من عسف الأتراك، ما اضطره إلى الهجرة إلى مصر حيث كتب وناضل وانتمى إلى مجلس الإمام محمد عبده. وهو عاد إلى دمشق في عام 1908، كما أنه سافر وتجول طويلاً في أوروبا كما في عدد كبير من البلدان العربية... وتولى وزارة المعارف في دمشق لفترة من الزمن... غير أن نتاجه الأكبر ظل كتبه التي واصل كتابتها حتى سنوات حياته الأخيرة ومن أبرزها إلى «خطط الشام»، «أمراء البيان» و «الإسلام والحضارة العربية» و «أقوالنا وأفعالنا» و «غابر الأندلس وحاضرها» و «المذكرات» و «كنوز الأجداد»... [email protected]