«... إن العامل الأكبر في ترسيخ هذا اليقين لديّ، كان هو المضمون الفكري لفلسفة إسبينوزا، تلك الفلسفة ذات النزعة الإنسانية العالمية التي كانت تحارب افكار الاستعلاء والتفوق العنصري، وترى في اعتقاد اي شعب بأنه «مختار» نقيصة أخلاقية، وتكافح من اجل فصل الدين عن الدولة، وتحارب الخلط بين الدين والسياسة (...) مثل هذا الفيلسوف لم يكن من الممكن ان يساند فكرة بعث الدولة اليهودية في «أرض الميعاد»، بل إنه كان خليقاً بأن يناضل ضد فكرة قيام أية دولة على أساس ديني. ومن المؤكد انه لم يكن ليقبل أن تُحل مشكلة اضطهاد اليهود في بقاع معينة من العالم من طريق اضطهاد مضاد يحلّ فيه الشعب اليهودي محل شعب عاش في ارضه مسالماً منذ عشرات القرون...» بهذه العبارات قدم المفكر العربي المصري، الراحل قبل اعوام قليلة، فؤاد زكريا لواحد من كتبه الأساسية وهو الكتاب الذي كرسه في العام 1962 للحديث عن حياة وأفكار وأهمية الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا الذي يعتبر واحداً من كبار رواد التحرر الفكري في تاريخ البشرية هو الذي دفع ثمن أفكاره اضطهاد أبناء جلدته من يهود امستردام له وعزلهم إياه وربما محاولة قتله ايضاً. كان ذلك في النصف الثاني من القرن السابع عشر حين كان الفكر الإنساني في ذروة تحولاته نحو عقلانية كان اصحاب الأديان الجامدة اكبر المتضررين منها ومحاربيها. ولئن كان الفكر العربي قد احتاج الى ان ينتظر القرن العشرين ليعرف بعض الأمور عن اسبينوزا، فإن هذا الفكر احتاج الى انتظار ظهور هذا الكتاب لزكريا كي يتعمق في التعرف الى الفكر الإسبينوزي... ولعل مقارنة بين كتاب زكريا هذا وعشرات الكتب الغربية التي وُضعت عن الفيلسوف المشاكس نفسه، ستقول لنا ان القارئ العربي بفضل كتاب زكريا بات لديه، يومها، متن علمي فكري يبزّ تلك المؤلفات الأوروبية. اما بالنسبة الى زكريا نفسه، فإنه لم يفته في تقديمه للطبعة الثانية من الكتاب (1981) ان يقول في توضيح حاسم: «... ولقد كان لهذا الكتاب، الذي كان بقدر ما اعلم اول كتاب موسّع لمؤلف عربي عن اسبينوزا، دلالة حضارية خاصة. فبقدر ما تضمّن من انتقاد لتفسيرات كثير من الباحثين اليهود الذين ابدوا اهتماماً بالغاً بكل جوانب مذهب هذا الفيلسوف، لم يكن الدافع الى هذا الانتقاد، من قريب او من بعيد، تعصباً عنصرياً او دينياً، بل كان الانتقاد موجهاً في واقع الأمر ضد التعصب الذي ظهر بصورة صارخة لدى هؤلاء المفسرين، والذي تمثل في محاولاتهم التعسفية ان يعيدوا ضمّه الى التراث اليهودي، ويردوا نزعة (اسبينوزا) الإنسانية الشاملة الى جذور دينية ضيقة...». على هذا النحو إذاً حدد فؤاد زكريا منذ البداية ان هدفه من الكتاب مزدوج في الوقت فسه، فهو من ناحية عمل موسوعيّ همّه ان يعرّف قارئ العربية بفيلسوف ذي فكر انسانويّ كوني وداعية الى الديموقراطية، قبل ظهورها، ومن ناحية ثانية، عمل سجالي يريد ان يساهم، مع متنورين ينتمون الى الفكر الإنساني العالمي، في اعادة الاعتبار الى اسبينوزا ضد محاولي الاستحواذ عليه وعلى فكره. والحقيقة ان قراءة كتاب فؤاد زكريا، ومرة ثانية بالمقارنة مع الكثير مما كتب عنه خلال العقود الأخيرة، إذ عاد الفكر الحديث إليه يدرسه ويحلّله، ويعيد اليه الاعتبار، ستقول لنا ان هذا المفكر العربي الكبير قد نجح في مشروعه المزدوج حتى وإن كان قد آثر هو – على عكس كثر من المفكرين العرب !- ان يبقى مهتماً بفكره والتقدم العقلي بعيداً من صخب الإعلام والثرثرات الشللية. * في قسم اول من الكتاب تحدث المؤلف عن حياة اسبينوزا وعن ولادته من اسرة هولندية يهودية ذات اصول اسبانية/برتغالية، ووصف لنا كيف تربى الفتى ودرس ليكتشف الفكر التنويري باكراً ويتفاعل مع كتابات الفرنسي ديكارت ليكون ردٌّ عليها واحداً من اول نصوصه. ثم يروي المؤلف كيف ان تمرد الفتى باروخ على أعيان طائفته الأقوياء وأفكارهم الدوغمائية راح يتكون عبر احتكاكه بالإشعاع الفكري والأطراف السياسية الجمهورية الطالعة والخائضة صراعات دامية احياناً. وقد كان من نتيجة ذلك ان غضبت الطائفة على ابنها فطردته وألقت عليه الحرم وحرّمت حتى اي احتكاك به، ما دفعه الى المغادرة حيث راح مذّاك يكرس حياته للفكر والعلم مشتغلاً صاقل عدسات كي يؤمّن عيشه في وقت تخلت عنه فيه حتى عائلته... وعلى هذا النحو، وسط اضطهاد وتجوال وفي ظلّ مخاطر كثيرة، تمكن اسبينوزا من ان يكون تلك «اللحظة التنويرية» الكبرى في تاريخ الإنسانية. وهي لحظة تمثلت في عدد قليل من الكتب وضعها وندر منها ما نشر خلال حياته وباسمه الصريح، لكنها جميعاً عرفت كيف تمعن في تأليب الأوساط الرجعية ضده... وهذه الكتب وأفكارها هي، بالطبع، ما يكرّس له فؤاد زكريا بقية فصول الكتاب الذي لا بد من التأكيد انه، على رغم صعوبة موضوعه، الناتجة من تركيبية فكر اسبينوزا نفسه، يُقرأ كرواية بطولية حقيقية... تنقسم صفحات الكتاب التالية لفصله الأول، الى سبعة فصول عالج المؤلف في كل واحد منها سمة اساسية من سمات فكر الفيلسوف، مع التركيز في اول تلك الفصول على اسلوبية اسبينوزا الهندسية المدهشة التي تسم كتابه الأشهر والأساسي «الأخلاق» – الذي للمناسبة، صدرت له ترجمة عربية فائقة الجمال قبل عامين من الآن عن «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت -... فإذا كان متداوَلاً منذ زمن بعيد ان اسبينوزا في صياغته هذا الكتاب قد اتبع اسلوباً فريداً يقوم على التوسّع في دراسة الأخلاق – وفي الحقيقة كل ما يمت الى الفكر الإنساني بصلة، من البرهنة الهندسية العقلية على وجود الله وصولاً الى دراسة مصطلحات مثل الجوهر والصفات والأحوال، مروراً بشتى ضروب السلوك الإنساني -، فإن ما حاوله زكريا، بنجاح هنا، انما هو تفسير إقدام اسبينوزا على اللجوء الى ذلك المنهج الإقليدي الغريب... وانطلاقاً من هنا، كان من الطبيعي لزكريا ان يؤكد في الفصل التالي ان الاتجاه العلمي لدى الفيلسوف كان طاغياً هو الذي كان يؤمن بأن قدرة العقل البشري غير محدودة، وبالتالي يؤمن بأن ليس ثمة عقبة ممكنة يمكن ان تحول دون اقتحام العقل كل ميادين المعرفة. وفي هذا الإطار، قد يكون مفيداً ان ننقل عن زكريا تأكيده ان اسبينوزا كان يعدّ التفكير في وجود العالم او عدم التفكير فيه» تفكيراً عقيماً لا جدوى منه» بحيث يكون هنا «المغزى الوحيد لقضية اسبينوزا القائلة ان الوجود ينتمي الى طبيعة الجوهر». وإذا كان فؤاد زكريا يدرس في الفصول الثلاثة التالية مسائل شديدة الصعوبة والتعقيد في فكر اسبينوزا مثل «الله والطبيعة» و «اسبينوزا والعقائد الشائعة» ومن جديد «نظرية الأخلاق»، فإنه يتوقف بشكل خلاق في الفصلين الأخيرين عند الأمرين الأكثر اثارة للجدل عادة في فكر اسبينوزا: الفلسفة السياسية والموقف التناحري المتبادل بين اسبينوزا واليهودية. وإذا كان الكاتب العربي يتناول في الفصل الأخير بالعرض والسجال الآراء المختلفة في مصادر تفكير اسبينوزا ويعود للمناسبة الى مسألة طرده من الطائفة اليهودية وخلفياتها اللاهوتية ثم «يفنّد» محاولات بعض المفكرين «التقريب بين اسبينوزا واليهودية» قبل ان يتناول في صفحات اخيرة حتمية استقلال اسبينوزا عن التراث اليهودي، فإنه قبل ذلك يتوقف عند الجانب الذي يبدو، له ولنا، الأكثر حداثة وأهمية في مسار اسبينوزا الفكري: الفلسفة السياسية، حيث هنا وبالاعتماد خاصة على رسائل الفيلسوف الكثيرة وكتابيه «البحث اللاهوتي السياسي» و «البحث السياسي»، يحلّل ما رآه اسبينوزا من اهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة التي «من واجبها ان تتعهد عقول رعاياها وتحكمهم بالإقناع لا بالإكراه، فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد او قمعهم بالخوف، وليس فرض الطاعة عليهم، وانما هو، على العكس من ذلك، تحرير كل شخص من الخوف حتى يعيش في اطمئنان تام (...). كلا ليس هدف الحكم تحويل الناس من كائنات عاقلة الى بهائم، وإنما تمكينهم من تنمية عقولهم وأجسامهم في امان ومن استخدام اذهانهم من دون قيد...الهدف الحقيقي للحكم هو الحرية». [email protected]