ما الذي يربط بين إنتاج هذا «الفيلم» السيئ والمسيء للإسلام ورسوله الكريم وبين قتل السفير الأمريكي وآخرين معه في بني غازي في ليبيا؟.. بكلمة واحدة: إنه «التعصب». التعصب في التاريخ الإنساني هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء كانت دينية أم وضعية، كما كان الحال في أنظمة التعصب الكنسي في العصور الوسطى، ثم أنظمة التعصب الإيديولوجي في العصر الحديث (الفاشية والشيوعية والنازية والصهيونية)، واليوم الحركات الدينية المتطرفة فى الشرق والغرب: إسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة.. وغيرها. والتعصب في اللغة هو عدم قبول «الحق» عند ظهور الدليل بسبب ميل «المتعصب» إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو فكر سياسي أو طائفة. وهو من «العصبية» وهي ارتباط الفرد بفكر أو جماعة والجد في نصرتها والانغلاق على مبادئها. والشخص المتعصب هو أيضا مريض ب «العصاب» أي مريض نفسي حيث يؤدي العصاب إلى التبعية، العدوانية، الكمالية، العزلة الاجتماعية والسلوك غير المناسب بين الأفراد، ورفض الحق الثابت والموجود ومصادرة الفكر الآخر أو الدين الآخر، أو قل هو لا يعترف بوجود كل ما هو آخر أصلاً، سواء فى الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الحزب، وإن ارتبط التعصب في أذهان الناس ب «الدين» أساساً ربما لخطورته، لذا انصب هَمُّ الفلاسفة على تقويض التعصب أساسا حتى يفسحوا المجال للتسامح والتعايش بين البشر على اختلافهم وتباينهم. وبدأ الاشتباك الفلسفي اللاهوتي (السياسي) منذ الفيلسوف الهولندي (اليهودي) «باروخ إسبينوزا» (1632 – 1677) في أواخر القرن السابع عشر. في كتابه العمدة والمعنون ب «البحث اللاهوتي السياسي» أول محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة -العهد القديم (التوراة) خصوصا- من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصر التي ظهرت فيه، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر. وأدى هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية، إلى نوع من سعة الأفق في النظر إلى هذه الظاهرة، بحيث استطاع إسبينوزا أن يتأمل في تسامح كل العقائد الأخرى ويفهم مغزى كل منها في ضوء ظروفه الخاصة. وعبر عن ذلك في مراسلاته مع «ألبرت بيرج»، الذي كان يمثل وجهة النظر الدينية المتعصبة. ففي الرسالة رقم (76) يرد إسبينوزا على أسئلة «بيرج» وعلى انتقاداته قائلاً: «أما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق في أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد؟ هكذا كان إسبينوزا يضيق بالتعصب لأي نص ديني بعينه، أو أية تعاليم على وجه الخصوص، وهو ما جعله من أنصار حرية الفكر على مر العصور، كما يقول أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا في كتابه عن إسبينوزا، بل إن التسامح والحرية عنده وجهان لعملة واحدة. فالتعصب والعنف والقهر والاستبداد، توائم (متماثلة) ومتشابهة ومتوالية، وأخطرها جميعا الاستبداد السياسي، فهو أشبه بالكتاليست في المفاعل النووي، أو المولد الأساسي لكل المساوئ والجرائم والخطايا. «فإن للمرء الحق –حسب إسبينوزا- في مخالفة الحاكم في تفكيره كما يشاء. ففي مجال التفكير، وفى مجال العقل –مادام صادراً عن العقل لا الانفعال– ينبغي أن تسود الحرية التامة، على ألا تتنافى مع القانون. أما كبت حرية الفكر فلن تؤدي إلا إلى الرياء والنفاق والخوف». وإسبينوزا هو صاحب أشهر حكمة سياسية في التاريخ الحديث، وهي: «ما لا يمكن منعه يجب السماح به». يقول: «هب أن الحرية قد سحقت، وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرؤون على الهمس إلا بأمر حكامهم. رغم ذلك كله فمن المحال المضي في هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقاً لتفكير السلطة السائدة، فتكون النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكر الناس كل يوم في شيء ويقولوا شيئاً آخر، فتفسد بذلك ضمائرهم. ويكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش والجريمة». أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هي ملء السجون بالأحرار، فإنه يعلق على ذلك بقوله: «أيستطيع المرء تصور نكبة تحل بالدولة أعظم من أن ينفى الأشراف وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها». وبمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم إسبينوزا كتابه «البحث اللاهوتي السياسي» الذي بدأه بالحملة على التعصب الديني، ليثبت لنا أن «التعصب» و»الاستبداد» صنوان في كل زمان ومكان.