لا نعرف إذا كان الهدف من التصدير الذي استهل به المهدي أخريف كتابَه الجديد «بالنوم أو بدونه»، الصادر عن دار توبقال، خَلْقَ التباس أم إيضاحَ فكرة! فمقدمة الكتاب الذي وقّعها ب «ابن عبد ربّه» (من دون أن نعرف هذا العبد ابن ربّه)، تُحيلنا في صورة من صوّرها على نصوص فرناندو بيسوا، الذي عرفه القراء باعتباره شاعراً متعددا في رجل واحد، يحتفي بنظائره الكثيرين وهو يكتب، وهو الكاتب الذي ترجم أخريف الكثيرَ من نصوصه الشعرية والنثرية. بهذا المعنى، يمكن أن نعتبر ابن عبد ربه مجرد نظير للمهدي أخريف نفسه، وهو الذي جرّب الأمر في نصوص سابقة. ثمة التباس ثان يطوّح به الكاتب أمام وجوهنا ونحن نتصفّح الكتاب، وهو: هل يتعلّق الأمر بكتاب شعري أم سردي؟ فنحن لا نطمئن إلى صيغة محدّدة من الكتاب منذ الصفحات الأولى، مما يُضاعف الحيرة. ينهمك التصدير إذاً، والكتاب في ما بعد، بمحاولة زعزعة يقين القارئ، فالكاتب يرمي كتابه بمختلف صنوف التقليل والتلفيقية والالتباس، ثم سرعان ما يستدرك ويضع هذه التوصيفات موضعاً إيجابياً، إذ يرى بأنّ عمله لا هو «بالمتجانس المتلاحم، ولا هو بالمفكك المقطع». معلّقاً بأن سطوة الربيع العربي، جعلت الكاتب وسارده يستسلمان لربيع تخاريفهما. ثم يعرّج على ملاحظة تتّصل بالعنوان، فيقول إنّ سبب هيمنة النوم في العنوان (بالنوم أو بدونه)، هو «مجرد تعلّة خادعة للممارسة الكتابية المعتلة المخادعة»، ليفضح في النهاية ميوله الخاصة بصياغة الأنداد، بقوله: «وقد يكون المؤلف اختار هذا الصنف من السرد ليستطيع، على أقساط ومراحل وبكيفيات متنوعة، استرجاعَ محكيات من طفولته ومراهقاته، من خلال مسارد متخيَّلة ومستعادة موصولة بالماضي، بالمعرفة والميتافيزيقا، بالمجهول والكذب أيضاً، وكأني به يحاول بذلك ابتداع سيرورة أدبية خاصة بحياته هو، وحيواتٍ أخرى تقيم بداخله أو تجاوره وتصاحبه» الكتاب ص11. في نصوص الكِتاب المتنوّعة، ضجر من الأعمار والتواريخ، وبرغم محاولة الكاتب التركيز على الأمور التقنية، من خلال خلط الأوراق والتذكير بأسماء حقيقية موجودة ووقائع حدثت بالفعل، إلا أن الضجر الوجودي بادٍ على محيّا النصوص، فنحن سرعان ما نَنْتبه إلى ما يذكّرنا به الكاتب دائما، لكون نصوصه في هذا الكتاب تلعب بحرية غير متكلفة، وغير منحازة إلى الكتابة بمعناها الأصيل -أي باعتبارها سلوكاً رصيناً يستحضر الناقد-. إنّ المهدي أخريف يريد الكتابة هنا سلوكاً طائشاً، لكننا نكتشف بعد تقدّمنا في قراءة النصوص، أنّ ادعاء الخفة والهزل واللاطمأنينة، ليس سوى ذريعة للتخفيف من وقع النصوص ودلالتها وثقل الزمن والموت، إنها أفكار وتأملات كاتب (شاعر على الخصوص) عَرَك الزمان وعاشر الناس وأسئلة الوجود، وعركته هذه الأسئلة بدورها، فما نتّجه نحوه في كهولتنا وبداية الخريف هو الطفولة تماماً، في دورة الحياة التي لا مناص من الارتماء بين فكي طاحونتها، لذلك يجهد الكاتب في رصد ملامح مسقط الرأس والاعتصام به كمنجى، حيث يستدعي بعض خصوصياته، ويتحدث عن طفولته، وعن الأمكنة، وأبناء العشيرة، وعن مغادرته الوظيفة، والتفرّغ للنوم والكتابة... فتبدو الكائنات حقيقية، ثم سرعان ما تَنْمَسِخُ وتتحوّل، لتغدو النعامة جملاً، أو جحشا، كأنّ الكاتب يستيقظ من واقعه ليرتمي في حلمه ويلوذ به. ربما يكون الهزل إذاً لونا من ألوان الجد، أو على الأقل صورة خفيفة منه. وفي مقطع آخر يقودنا المهدي إلى محاورة نصّ مفترض، لا نراه لكننا نُوعَدُ به، بل إنّ الكاتب يحاول تخويفنا من الاقتراب منه، بأن يسوق ملاحظات شعراء وأدباء معروفين لدى العامة (مثل محمود درويش ومحمد الأشعري ومحمد بنيس) نصحوه بِبَتْرِ النصّ والتخلّص منه. في النهاية، لا نعثر على نصّ، بل على ظلال نصّ، على آثاره المخيفة التي يصوّرها الكاتب كجريمة لا تغتفر، تاركاً الباب مفتوحاً أمام القارئ ليتخيّل هذا النص. يصلح نص «أوصيك بالنعاس»، أو بدايته على الأقل، مقدّمة لرواية، فهو نصّ واعد متخم بالحكي، مُستدع دهشة القارئ وأسئلته. كما أنّ الكاتب يدسّ في نصوص عديدة مقاطع سردية ممتعة، مثل قوله «تعلمتُ بفضل تمارين بسيطة ومعقّدة، على مدى عقود، ممارسة عادة القراءة، وحتى الكتابة وأنا نائم. بوسعي قراءة صفحات بكاملها من كتب أقوم بتحضير محتوياتها على نحو ما تحضّر الأرواح، وبوسعي أيضاً تمديد أحلامي وتقصيرها، أو تحويلها إلى كوابيس شيقة، أو بالعكس، تحويل الكوابيس المزعجة إلى أحلام لطيفة. ولكنّ الأهم هو أن في مقدوري اليوم تدوين ما أرغب في تدوينه منها حتى وأنا نصف مستيقظ بواسطة قلم حبر شبه سحري» ص37. ليكوِّن الكتاب خليطاً من الشعر والحكاية ووعْدٍ لا يتوقّف بنصوص ومتون. كتب المهدي أخريف، منذ سبعينات القرن الماضي، نصوصاً شعرية ونثرية كثيرة، منها: «عشق بدائي»، «باب البحر»، «سماء خفيضة»، «بديع الرماد»... وآخرها: لا أحد اليوم ولا سبت. ترجم معظم أشعار فرناندو بيسوا، وكان أهم ترجماته «كتاب اللاطمأنينة». حصل على جوائز عديدة، منها جائزة الصداقة الأدبية المغربية الكولومبية، وجائزة تشيكايا أوتامسي للشعر الأفريقي، كما تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات العالمية.