قلَّ أن قرأت في السنوات الاخيرة عملاً شعرياً يتسم بالمرارة والألم والرؤية السوداوية الى العالم كما هي الحال مع كتاب الشاعر الاسباني خوستو خورخي بادرون «دوائر الجحيم». ففي هذا العمل الشعري الذي نقله الى العربية الشاعر والمترجم والباحث التونسي المهدي أخريف وصدر عن دار توبقال في المغرب يشعر القارئ انه ازاء نص توراتي منسوب الى أشعياء أو ارميا أو حزقيال حيث العالم واقف عند تخوم الكارثة وحيث الكتابة ليست سوى الكلام الاخير الذي يسبق الجولة الفاصلة مع الخراب. ثلاث واربعون قصيدة تتوزع بين محاور أربعة هي «تحولات» «والرؤى» «وجحيم الارض» «والمتهات» ولكنها على تنوعها تتحلق حول محور واحد هو الامل الفاسد للحياة والنهاية الفاجعة لها. يكفي ان نتصفح بعض العناوين الموضوعة للقصائد من مثل «بين كائنات الهاوية»، «المدينة والموت»، «الجنة»، «الجنون»، «إنهيار»، «المنتحر»، و «ثلج وهاوية للمرايا»، لكي ندرك بعض ما ينتظرنا خلال القراءة من مناخات قاتمة وأنفاق مغلقة على هاويتها. ثمة وجه ناري للكتابة عند خورخي بادرون المولود في جزر الكناري الإسبانية والذي ضمت أعماله الكاملة أكثر من عشرين مجموعة شعرية موزعة بين منتصف العقد السابع من القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي. وهذه الميزة لدى الشاعر لا تنحصر في العنوان الذي أعطاه لأعماله الكاملة وهو «ذاكرة النار» أو في عناوين مجموعاته المتفرقة من مثل «النيران المعتمة» و «مكتوٍ في الماء» و «دوائر الجحيم» بل تنسب على الأسلوب العصبي والقاموس والعبارة المتوترة بقدر ما تنسحب على المناخ الإستشرافي الموزع بين جحيمية دانتي وكابوسية نوستراد أموس. ليس ثمة في هذا الشعر من بارقة أمل أو قشة نجاة أو ضراعة ترفع باتجاه منقذ أو مخلص. ليس سوى الإنهيار الذي يعبر عنه بادرون في قصيدة تحمل الإسم نفسه بقوله: «وسط القمامة والقطط الحقيرة / حاول عبثاً لملمة بقايا الإنهيار / أما نار ذلك الحب الذي مضى / والتي يدسُّها في الفن الشائخ المتوفي / فقد ضيعتها الريح / الذكريات تتبدى له عبر الشارع الزاعق / الهواجس / الرجات / الحمى / أحلام النوم / الحب / المنزل / كلها فقدت إلى الأبد». أما الحب الذي طالما رأى فيه الشعراء خلاصهم الأخير من العزلة والخوف ومحنة الموت فقد أخلى مكانة لمخالب الرغبة الجنسية الهائجة التي «نبحت في العشب المختلج عن بوابة الجحيم». وكما يتقاطع بادرون في غير زاوية ومكان مع جحيم دانتي وأشباح نوسترادموس المؤذنة بنهاية العالم يتقاطع في أماكن أخرى مع سوداوية فرانز كافكا وبخاصة في روايته «التحول» حيث ينهض بطله المطحون تحت الرحى الثقيلة لآلة النظام الرأسمالي ليجد نفسه فجأة وقد بدأ يتحول إلى حشرة. واللافت في هذا السياق أن قصيدة بادرون «سطح حراشفي لماع» تكاد تكون اختزالاً مكثفاً للرواية الكافكاوية وتماهياً شبه تام مع وقائعها الغرائبية التفصيلية حيث تبدأ القصيدة بالطريقة نفسها التي يبدأ بها كافكا عمله السردي الأشهر: «ممدداً أفقت في فضاء معمور بمرايا مضيئة / فضاء كان يعكس بجلاء نحو عنقي البطيء / كنت أنمو وأنمو / بعينين بعيدين أكثر فأكثر عن جذعي.. / ثم تمدد جلدي مختزلاً ذراعيّ وقدميّ إلى زعانف / متحولاً في النهاية إلى سطح حراشفي لماع». يحشد خورخي بدرون للتعبير عن اضطرامه الداخلي وقنوطه من الحياة قاموساً شاسعاً من المفردات والجمل التي يتم توظيفها بمهارة من أجل نقل عدوى الشاعر إلى قرائه. وحتى في القصائد التي تتحلق حول ما يفترض أنه موضوع ذو خلفية رومانسية كوصف النجوم على سبيل المثال ينأى الشاعر بنفسه عن السياق التاريخي المألوف للتحدث عن النجوم ليسقط على تلك الظاهرة الكونية الخلابة أبعاداً أخرى متصلة بالرهبة والخوف والقلق الميتافيزيقي. فالنجوم عند بادرون هي أسنان الياسمين التي تسقط معمية الأبصار، وهي مأسورة الليل المدومة والتموج الوحشي للحمم البركانية ولهاث البرد وتراتيل الموت، إلى ما سوى ذلك من الصور الغريبة والمفاجئة. ومع ذلك فإن مشكلة الإنسان بالنسبة للشاعر لا تنحصر في اختلال العلاقة بينه وبين نفسه حيث تنشب أكثر الحروب شراسة وضراوة. وإذا كانت الحياة مبنية في الأصل على المخاتلة والعنف والغدر فإنها وفية لشيء واحد هو جعل الكائن البشري أداتها الأساسية لتنفيذ مخططاتها. وهو ما يعبر عنه بادرون في قصيدتيه «مهنة الانتقام» التي ينهيها بقوله: «ثمة غاية وحدية لوجود الحياة / وهي أن تمارس من خلالي مهنة انتقامها»، كما في قصيدة «العدو» التي يقف في نهايتها من يسميه الشاعر بالكاهن الأكبر ليصدر ضد الإنسان حكمه القاطع بحقه قائلاً: «أنت العدو الأكثر خساسة لذاتك». وفي قصيدة «التعب» يعرب الشاعر عن تعبه المفرط من نفسه ومن كونه مجرد دمية في يد الرياح أو في يد من يتربص به في الأعالي رابطاً روحه بطرف خيط ما يلبث أن يجذبه إليه في نهاية اللعبة، بما يذكر «بالطول المرخى وتبناه في اليد» في قصيدة طرفة بن العبد. لا بد أخيراً من التنويه بالترجمة الذكية والموفقة التي أنجزها المهدي أخريف لقصائد المجموعة حيث نجح إلى حد بعيد في التوأمة بين النقل الأمين للصور والمعاني وبين نضارة العبارة العربية.