فتح مقتل متظاهرين عراقيين في مدينة الفلوجة (غرب بغداد) برصاص الجيش العراقي، في 25 كانون الأول (يناير) الماضي، ملفاً شائكاً في شأن هوية المؤسسة العسكرية في البلاد، وتجدد الخلاف في شأن ولائها، وتوغل القوى السياسية العراقية في بنائها الفني. ومنذ أن سرح الحاكم المدني الأميركي للعراق، بول بريمر، الجيش العراقي العام 2003، انطلق نشاط سياسي لتحضير هوية جديدة له. لكن النخبة العراقية أخفقت، بعد تسع سنوات، في تحقيق هذا الهدف. المراقبون العراقيون الذين تناولوا تداعيات واقعة الفلوجة، كانوا يتحدثون أيضاً عن تاريخ حافل بالأفعال السياسية للجيش. فهو، في الأقل، كان رافعة أبرز الانقلابات السياسية في العراق. كان من الصعب انجاز مهمة صناعة مؤسسة عسكرية تقف على خط حماية الدولة المدنية، ومشروعها الجديد المرفوع شعاراً، منذ 2003، لكن ضحايا الفلوجة كشفوا، من جديد، ان الجيش اصبح ضحية لنوازع السياسة. ويرجع تاريخ تأسيس الجيش العراقي إلى عام 1921 حيث بدأ بتشكيل فوج «موسى الكاظم» للمشاة، تبع ذلك تشكيل القوة الجوية العراقية عام 1931، ثم القوة البحرية العراقية عام 1937. ووصل عديد الجيش إلى ذروته مع نهاية الحرب العراقية - الإيرانية ليبلغ مليون شخص. وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 أصدر بريمر قراراً بحل الجيش العراقي فأعيد تشكيل الجيش وتسليحه من جديد، لكن هذه المهمة رافقها الكثير من الفوضى والنزاع بين القوى السياسية في البلاد. جيش سياسي وسجل خبراء عسكريون على تشكيلات الجيش العراقي منذ إنشائه إقحامه في السياسة. ويرون أن ذلك خلّف خسائر فادحة للجيش وللنظام السياسي، على حد سواء. وأول تدخل للجيش في المعترك السياسي كان في انقلاب بكر صدقي في شباط (فبراير) 1936، أعقبته حركة القادة الأربعة والتي سميت بحركة «رشيد عالي الكيلاني» في آيار (مايو) 1941 التي فر على أثرها الوصي عبد الإله قبل أن تنجح القوات البريطانية في إعادته. عام 1958 كان الجيش بقيادة عبد الكريم قاسم على موعد مع اسقاط الحكم الملكي واعلان الجمهورية، وبعد أربع سنوات شارك الجيش نفسه بقيادة عبد السلام عارف بالانقلاب على قاسم بدعم من حزب البعث. وفي السابع عشر من تموز (يوليو) 1968 عاد الجيش ليسجل حضوراً مؤثراً للغاية في انقلاب حزب البعث بمشاركة ضباط كبار نصبوا بعد نجاح العملية القيادي في حزب البعث، آنذاك، أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية. كان هذا التدخل، من وجهة نظر مؤرخين ومتابعين، الأبرز في تاريخ الجيش، كونه غيّر وجه البلاد، إلى اليوم. لكن تكرار الجيش تجارب الانقلاب غير وارد حالياً كما يقول الخبير العسكري معتز محي الدين «فالجيش لا يمتلك القوة القيادية ولا الأسلحة الحديثة التي تؤهله لخوض مغامرة عسكرية لمصلحة أي حزب من الأحزاب في الوقت الحاضر». محي الدين أوضح ل «الحياة» أن «غالبية التشكيلات العسكرية التي شكلت بعد 2003 أخذت إطاراً فئوياً وحزبياً يعتمد الطائفة والقومية، فقد أصبح معروفاً ان فرقة من الجيش العراقي تابعة لفصيل شيعي، وفرقة اخرى لفصيل سني». ويضيف «الانتماء العسكري، حالياً، فئوي محكوم بنهج حزبي». ولم تجدِ نفعاً محاولات الحكومات المتعاقبة لتوحيد صفوف الجيش، وتخليصه من حالة الهويات المتضادة التي تكرست بعد الحرب الأهلية (2006 – 2008)، فالميليشيات المسلحة ودمجها في المنظومة الاتحادية للجيش كانت خطوة نحو مزيد من التقسيم. ميليشيا «جيش المهدي»، الذراع المسلح لتيار رجل الدين مقتدى الصدر، كانت حصلت عام 2008 على اتفاق مع الحكومة تضمن إطلاق سراح المعتقلين من أنصار الصدر، وإيقاف الملاحقات القضائية بحق المتهمين بالخروج على القانون، في مقابل موافقة القائد العام للقوات المسلحة على منح رتب عسكرية تتراوح بين ملازم ومقدم ل 1500 من عناصره. كذلك دمجت الحكومة في الجيش مقاتلي قوات الصحوة، التي دعمت تشكيلها القوات الأميركية عام 2006 لمواجهة تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة، والتي لعبت دوراً فاعلاً في إسناد القوات العراقية والقوات الأميركية في إضعاف تنظيم القاعدة، وإعادة الأمن والاستقرار في مناطق نفوذ «القاعدة»، بخاصة في محافظة الانبار (غرب بغداد). عن خطة دمج المسلحين في الجيش، كتب في حينها الباحث انتوني كوردسمان أنه «لا فائدة من دمج الميليشيات المستقطبة في شكل كبير في القوات العسكرية التي تدربها الولاياتالمتحدة». ويقول كوردسمان وهو عضو مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية أنه «أمر ساذج يصل إلى حد الغباء الذي يتسم بالخطورة ... إنهم أشخاص يصعب ان ترغب في دمجهم في قوة وطنية. هذا سيتمخض ببساطة عن قوات طائفية أو عرقية تثير انقسامات داخل القوات الموجودة بالفعل». وبالعودة إلى قرار بريمر حل الجيش، فإن الرأي العام المحلي لطالما اعتقد بأن الإدارة الأميركية رغبت بجيش مقسم طائفياً وعرقياً. وفي هذا السياق تمت عملية التجنيد التطوعي، ومعها أُعيد تجنيد ضباط الجيش السابق. من يسيطر على الجيش؟ لم تقدم وزارة الدفاع العراقية احصاءات دقيقة عن التقسيمات الطائفية والعرقية في الجيش العراقي، لكن معارضين لحكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بينهم اكراد وسنّة اتهموه بالسيطرة على قيادة الجيش عبر ضباط شيعة. لكن مصادر شيعية تؤكد في معرض الرد على هذه الاتهامات ان الأكراد حصلوا على سبعة مناصب مهمة من مجموع (16) مركزاً في قيادة الجيش هي رئاسة أركان الجيش وقيادة القوة الجوية ومعاون رئيس أركان الجيش للإدارة ومديرية الاستخبارات والأمن وقيادة ثلاث فرق، فيما حصل العرب الشيعة على ثمانية مناصب والعرب السنة على منصب واحد فقط. ويشير تقرير أعدّه مركز «الاستقلال» للدراسات الإستراتيجية، أطلعت عليه «الحياة»، إلى أن نسبة العرب الشيعة، ضباطاً ومراتب في فرق 8 و 10 و 14 من الجيش التي تعمل جنوب العراق، تشكل نسبة 100 في المئة فيما يشكل الأكراد الغالبية في الفرقة الثانية والثالثة والرابعة العاملة في المناطق الشمالية في البلاد. هذه النسب، ووفق معارضين لرئيس الحكومة العراقية، تعود إلى النهج الذي يتبعه الأخير في إدارة القوات المسلحة. ويقول عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي عن كتلة «التحالف الكردستاني» شوان محمد طه إن «مكتب القائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي، له صلاحيات تفوق ما للوزارات الأمنية بكثير، فالمؤسسات الأمنية والدفاعية والاستخباراتية والدفاعية تحديداً تحت إشراف مكتب القائد العام». ويرى طه، في تصريح إلى «الحياة»، أن «الحكومة الآن تتجه سريعاً نحو عسكرة المجتمع العراقي. وبعد حادثة الفلوجة تبين ان العراقيين في مناطق متفرقة من البلاد لديهم أزمة ثقة مع الجيش». وحول ارتباط الجيش بالحكومة يقول طه إن «المواطنين يعتبرون الجيش ممثلاً عن الحكومة. وهذا خرق للدستور. فالجيش يفترض ان يكون محصناً من الولاء السياسي». ولم يؤيد طه الآراء التي تتحدث عن الجيش بوصفه طائفياً، «فعلى رغم صدور ترقيات عديدة في المؤسسة العسكرية أخيراً فقد ارتفع عدد الضباط برتبة فريق في البلاد من دون وجود مناصب يعملون فيها». ويتابع: «أوامر النقل والترقيات تلك لا تحمل بعداً طائفياً، التهميش والإقصاء موجودان فعلاً ضد الأكراد والسنة والشيعة غير الموالين لدولة القانون التي يتزعمها رئيس الحكومة». يزعم طه أن «الجيش العراقي يُبنى وفق قاعدة من هو مقرب من حزب الدعوة ودولة القانون»، وهو ما يبدو متناغماً مع نسب التوازن في صفوف الجيش التي قال طه إنها بنحو 2 إلى 3 في المئة للأكراد، والعرب السنة بأقل منها. أما الباقي فهو من نصيب الموالين للمالكي». وينص الدستور العراقي، في «الباب الأول – المادة 9 «، على أن «القوات المسلحة تقوم على أساس توازنات ونسب تمثيل الشعب العراقي». وهنا يجد العديد من الخبراء العسكريين ان النص القانوني نفسه يتيح لتشريعات تعزز التقسيم وضياع الهوية المهنية للجيش. الاتهامات الموجهة من كتل برلمانية مختلفة الى رئيس الحكومة تفيد بأنه عين العشرات من قادة الفرق والمناصب الحساسة في الجيش والاجهزة الامنية بالوكالة، ومن خارج النص الدستوري الذي يشترط موافقة البرلمان على المناصب الخاصة في الدولة ومنها المناصب العليا في وزارة الدفاع وقادة الفرق، ويشير المعترضون الى ان هذا الواقع سمح لرئيس الحكومة بتجيير الجيش لمصلحته. لكن المالكي رفض الاتهامات الموجهة اليه، وأكد مراراً، أنه أرسل أسماء الضباط الكبار للبرلمان للتصويت على مناصبهم قبل إصدار قرار توليهم مناصبهم العسكرية. الجيش يدافع يقول الناطق باسم وزارة الدفاع العراقية، محمد العسكري إن «للجيش العراقي ميزة المهنية العالية والانضباط الجيد، وقد أصبح جيشاً للشعب». التعبير المفرط في مثاليته، وابتعاده عن الواقع، كان ضُرب في الصميم في واقعة الفلوجة. إذ يرى البعض ان الجيش اخفق في رهان صعب. كان السؤال كيف يكون دور الجيش في تظاهرات السنّة العرب في العراق؟ فقد تناقلت وسائل إعلام مشاهد فيديو تضمنت مهاجمة بعض المحتجين عجلات للجيش العراقي بالحجارة «اثر منعهم من الوصول إلى ساحة التظاهر وسط المدينة وفق ما رواه المتظاهرون» وهو ما ردت عليه عناصر الجيش بإطلاق الرصاص الحي لتتسبب بمقتل خمسة متظاهرين وإصابة 60 آخرين. وأفضى الحادث إلى إعلان محافظة الانبار الاتفاق مع مكتب القائد العام للقوات المسلحة على سحب قطعات الجيش العراقي من مدينة الفلوجة خلال 24 ساعة واستبدالها بالشرطة الاتحادية. وشكل بعدها المالكي، الذي يتولى مناصب الوزارات الأمنية بالوكالة، منذ تشكيل الحكومة لجنة للتحقيق في الحادث ودعا القوات المسلحة العراقية إلى ضبط النفس والابتعاد عن استخدام القوة. وعن سبب حدوث هذه المواجهات تحدث المالكي عن «مؤامرات تقف وراءها استخبارات إقليمية ومن سماهم بقايا النظام السابق وتنظيم القاعدة تهدف إلى جر القوات المسلحة الى مواجهة مع المتظاهرين». حادثة الفلوجة أعادت، أيضاً، الحديث عن تمركز الجيش العراقي في المدن، خلافاً للمهمات المتفق عليها، والتي تفرض وجوده على الحدود. وترفض قيادات الجيش الخروج من المدن إلى الصحراء والحدود بعد سبع سنوات من التمركز داخل المدن والقيام بمهمات الشرطة. وطيلة تلك الفترة لعب الجيش دور الشرطي، ما يضفي على الملف العسكري في البلاد المزيد من التعقيد، لكن الحرص على الوجود في الأحياء والمدن يعكس قلق الفرقاء السياسيين في البقاء على خط التماس الطائفي والقومي. ومع تعرض الجيش الى التقسيمات السياسية والمذهبية والعرقية، يتسلل الفساد إليه تحت غطاء حزبي محكم. وتناولت وسائل الإعلام المحلية معلومات متضاربة وغير مؤكدة في شأن وقائع تلاعب في التجنيد وصرف الرواتب، من الصعب التأكد من دقتها بسبب الطوق الذي تفرضه الفرق العسكرية ضد الصحافيين. لكن تعيين الموالين للأحزاب في الجيش، وعلى رأس قيادات عسكرية مهمة، يبدو انه ساهم في تشكيل جماعات من المجندين داخل الجيش من دون خبرة فنية. وتقوم خطط «التجنيد الحزبي»، إن صحت التسمية، على أساس الشعور بالخوف من استهداف الجماعة السياسية التي يدين بها المجندون بالولاء. وتلك الجماعات لا تكترث للرقابة والمتابعة. وفي ظل غياب المراقبة تنشأ كانتونات تدير عمليات فساد داخل الجيش. يتحدث موظف مدني في معسكر التاجي رفض الكشف عن هويته عن ظاهرة «الفضائيين» داخل صفوف الجيش، والتي توفر الأموال لمراتب عسكرية مختلفة تبدأ من اصغر ضابط وتنتهي بالقيادات الرفيعة». «فضائيون» و«الفضائيون» تعبير اعتمد، في البيئة العسكرية الجديدة، للاشارة الى الجنود الذين لا يعلمون في وحدات الجيش، ويلزمون منازلهم، فيما يتقاسمون الراتب الشهري مع الضابط الذي يتدبر أمر غيابهم. ويقول المصدر، في حديث الى «الحياة»، إن «أنواعاً مختلفة من الفضائيين، منهم يحصلون على الحماية من عضو في البرلمان العراقي، إذ يجري اتفاقاً مع أحد الضباط على استعمال جنود الأخير لمنافع شخصية». وفي قصة أخرى يرويها الموظف، فإن «الضابط المسؤول عن الفوج (تشكيل عسكري يضم نحو 1500 جندي) يدفع مبالغ مالية كبيرة للشخص الذي عيّنه»، ويتابع: «المناصب العسكرية لا توزع وفق آلية واضحة فنياً، الأمر مرتبط بالعلاقات والمعارف». ويقول هذا الموظف ان «الضابط المسؤول عن اللواء (تشكيل عسكري يضم نحو ثلاثة أقواج) يحصل على ما لا يقل عن 25 مليون دينار شهرياً». الجيش كورقة سياسية الصورة القاتمة لوضع الجيش العراقي لا تتطابق مع القول إن تحولاً حدث على صعيد هوية الجيش. لا يعرف في ما لو انه يحمي التجربة الديموقراطية المفترضة. الوقائع تشير إلى العكس تماماً. يقول وزير امني عراقي سابق، في تصريح إلى «الحياة» إن «التحول يقتصر، فقط، على الجانب الفني. لقد تغيرت العقيدة من الهجوم إلى الدفاع ويترتب على ذلك تغيير في الجانب التقني من جهة التدريب العسكري وطبيعة الأسلحة التي جُهِزَ بها».