لا يكاد يمضي يوم في العراق من دون إشارة إلى تشكيل حكومة «غالبية سياسية» بديلة لحكومات «المشاركة» أو «الشراكة» أو «المحاصصة» التي تعاقبت على الحكم، وتلك الإشارات تأتي في معرض التلويح أو التهديد من جبهة رئيس الحكومة نوري المالكي، والتحذير والتنديد من أطراف تقف في الصف المعارض. وبصرف النظر عن أن الدوافع الدعائية للتلويح ب «غالبية سياسية» لا تمتلك أية فرصة في ضوء الانقسام الحاد والمنهجي في الخريطة السياسية، فإن طرح الموضوع في مناسبات مختلفة وعلى لسان زعماء سياسييّن رئيسييّن بصفته جزءاً من «الإصلاح السياسي» أو لكونه حلاً للاختناق الراهن، أو «وسيلة لتحقيق الأمن والخدمات»، يهمل منظومة كاملة من الأولويات لمرحلة انتقالية متعثرة تعاني انقساماً شديداً على مستويات مختلفة. ووصم مثل تلك الطروحات بأنها «قاصرة» و «غير منتجة» يقترب من الحقيقة في ضوء الخيارات التي تطرحها. وفي نطاق إهمال الواقع أو حتى اعتباره نتاجاً «عرضياً» للمحاصصة الطائفية والقومية وأن «الأوان حان لإنهاء هذه المرحلة»، بعد تسع سنوات من تورط الطبقة السياسية في تكريس الاستقطاب الطائفي والقومي وتعميق الانقسامات الاجتماعية. وهذا التبرير الأولي يطرح إشكالية تخص إصرار الوسط السياسيّ العراقيّ منذ عام 2003 على تكريس «قواعد المحاصصة» ومن ثم تأسيس منظومات حكم وإدارة قائمة عليها، وبناء أجندات فكرية وحزبية وأمنية واقتصادية خاضعة لمنطق الاستقطاب، قبل أن تتنبه أخيراً إلى أن مشكلة الحكم في العراق تكمن في «المحاصصة» نفسها. وأكثر من هذا فإن النخب السياسية ساهمت بنشاط على امتداد الأعوام السابقة بإجهاض أي توجه لتحقيق الوئام الاجتماعي الذي يسمح بولادة تيارات سياسيّة عابرة للطوائف، ومنحت الحكم وصفاً «دينياً» فأصبح «تكليفاً شرعياً» لا «وظيفة دنيوية». وفي نطاق هذا الفعل التخريبي في صميم البنى الاجتماعية العراقية، والشروخ العميقة التي أحدثتها قواعد الفصل الطائفي والعرقي في الوسط السياسي العراقي نفسه، جاء التخبط في تجربة الحكم ليُفهم من زاوية كونه «اختباراً مذهبياً» أكثر منه «تجربة حزب سياسي»، فبدأ الحديث متواتراً عن فكرة يتم تسويقها ضمنياً في معرض البحث عن أسباب «عرقلة الشراكة السياسية لعمل الحكومة» و «وجود مشاركين في الحكومة معارضين لها»، بأنها لا تخرج، في نهاية المطاف، عن «محاولة طائفة تقويض تجربة حكم طائفة أخرى». وفي هذه الأجواء الملتبسة حيث يندمج ما هو سياسي بما هو ديني أو عقائدي، ويفسر سلوك الحكومة وسلوك معارضيها بدلالات طائفية أو عرقية، فإن التجارب الانتخابية العراقية جاءت متوافقةً مع مرحلة التخبط السياسي عبر إنتاج «ممثليات» لطوائف، لا لأحزاب بالمعنى الطبيعي المعروف للحزب السياسي. السيناريوات المطروحة لحكومة «الغالبية السياسية» في العراق، أقلها في الدوائر القريبة من رئيس الوزراء العراقي والمدافعة عن هذا التوجه، تشير إلى توجهين أساسيين: الاول: محاولة استقطاب «ممثليات مذهبية فرعية» للسُنّةِ والأكراد إلى حكومة الغالبية المقترحة، عبر فتح اتصالات وإبرام اتفاقات مع شخصيات سياسية أو عشائرية أو دينية، لضمان التمثيل المذهبي والعرقي في الحكومة بحدوده الدنيا. ودفع القوى الأخرى الممثلة للسُنّة والأكراد إلى المُعارضة. وهذا السيناريو يهمل جملة اعتبارات أبرزها، افتراضه ثبات الوزن السياسي للقوى المرشحة للاستقطاب، وتمثيل تلك القوى الفعلي لطوائفها في بلاد أصبح فيها التمثيل الطائفي والعرقي واقع حال. الثاني: إبرام تحالف شيعي – سنّي أو شيعي – كردي يدفع إحدى الطوائف إلى المعارضة. ما يوقع التجربة برمتها في إشكالية إعادة إنتاج «المحاصصة» على قاعدة ثنائية بديلاً من أن تكون ثلاثية، ناهيك عن المطبات التاريخية الخطيرة التي يُسببها تحويل طائفة إلى معارضة. ويمكن على أساس هذين التوّجهين، في حال تم التغاضي عن سيناريوات بديلة كحكومة يُشكلها السُنّة والأكراد بالتحالف مع الصدر، أن تُذكّر بنتائج تجربة نظام صدام حسين نفسه في الحرص على إضفاء صفة «التنوع» المذهبي والقومي «الشكلي» في قمة السلطة، فيصبح رئيس البرلمان شيعياً (سعدون حمادي) ونائب رئيس الجمهورية كردياً (طه محيي الدين معروف). ومع هذا، فإن تلك السياسة لم تنتج قناعة لدى الشيعة والأكراد بالمشاركة في حكم العراق في ظل نظام صدام بل على عكس ذلك، فالطروحات الرئيسة التي قادت إلى إسقاط النظام كانت تركز على مبدأ «المظلومية» لدى الشيعة والأكراد. المشكلة العراقية من وجهة نظر النخب السياسيّة العراقيّة التي صاغت الدستور وقادت العملية السياسيّة، لم تكمن يوماً في وجود شخصيات بانتماءات مختلفة في رأس السلطة منذ بزوغ الدولة في شكلها الذي أقرته اتفاقية سايس - بيكو، بل في قدرة تلك الشخصيات على تمثيل بيئتها لا بيئة الحاكم وتوجهاته. وفي سياق الوصف نفسه، فإن السُنّة في العراق ما زالوا يعتقدون أن تجارب الحكم ما بعد عام 2003 «همّشتهم» و «أقصتهم» وأن وجود ممثلين للسُنّة في أعلى مناصب الدولة لم يمنع هذا التهميش والإقصاء، بدليل أنهم باتوا يرفعون شعار «الإقليم السُنّي» بعد ممانعة ورفض مبدأ «الفيديرالية» من أساسه. في المقابل ما زال الطرف الكردي في العراق يشكو من سياسات الحكومة المركزية، ويتحدث عن ممارسات لإقصائه، ويحذر في شكل يزداد إلحاحاً من المضي إلى إعلان الدولة المستقلة. وواقع الحال أن شعور مكونات كاملة ب «الإقصاء» و «التهميش» في غاية الخطورة في حال تم تكريسه على مستوى «حكومة الغالبية» لأنه يثبت من جديد أن الأطراف السياسية العراقية لم تقرأ التاريخ في شكل وافٍ ولم تُحددّ منهجيات أصيلة لتجاوز أخطائه. دولة غير مكتملة الأصل أن الانقسام الاجتماعي في التجارب الديموقراطية المعروفة لم يكن حائلاً دون تشكيل حكومات «غالبية سياسية» وإن كانت تلك الحكومات قد سبقتها تفاعلات ومكابدات، سمحت في نهاية المطاف بتكوّن أحزاب وتيارات عابرة للطوائف، بل إن تشكيل حكومات تعتمد فكرة الغالبية السياسية لا التوافق المكوناتي ساهم إلى حد بعيد في تغيير قواعد العمل السياسي في تلك البلاد، فتغيّرت على أثر ذلك بوصلة الخيارات الانتخابية تدريجاً من الانحياز الديني والطائفي والقومي إلى الانحياز السياسي، ما عُدَّ نوعاً من الشفاء الاجتماعي والمؤسساتي الذاتي. لكن المشكلة في العراق تتعدى قضية الشروخ الاجتماعية والمكوناتية، نحو استمرار «المرحلة الانتقالية» في عمر الدولة إلى ما هو أبعد من المتوقع لها. وافتراض أن العراق ما زال يعيش منذ عام 2003 في ظل «المرحلة الانتقالية» تدعمه مجموعة اعتبارات من المفيد التذكير بها: - إن المنظومة الدستورية التي من المفترض أن يتم إكمالها في المرحلة الانتقالية لم تكتمل، فالدستور العراقي ما زال مختلفاً عليه في أوجه عدة، وهو خاضع للتعديل الإجباري في عدد من المواضع، فيما تعاني المنظومة الرئيسة من غياب القوانين الخاصة بتحقيق العدالة الاجتماعية، وحقوق الأقليات، وسيادة القانون، وتوزيع الثروات، والعلاقة بين المركز والأقاليم، وشكل الحكم، وآليات اتخاذ القرار، وصلاحيات السلطات التنفيذية، والأحوال الشخصية، وإدارة العلاقات الخارجية، وتصفية تركة النظام السابق، وإلغاء قوانين الحاكم الأميركي بول بريمر وغيرها... ما زالت غائبة ومختلفاً عليها وهي مببررات دائمة للنزاع. - يعيش العراق في حالة «حرب» في الواقع، فهو من جهة ما زال يواجه تحديات أمنية كبيرة، تتمثل باستمرار فاعلية المجموعات المسلحة التي تنتمي إلى بيئات اجتماعية مختلفة، وفي العادة تخوض الشعوب حروبها في نطاق تضامن داخلي ومن دونه لا يمكن أن تحلم بسلام اجتماعي طويل المدى. - إن المتغيرات الإقليمية ومستوى الشدّ المذهبي الذي غلف الصراع الإقليمي، تفرض على العراق حماية توافقاته الداخلية الهشّة، ما يستدعي المزيد من التركيز على عبور المرحلة بأقل الخسائر، وعبر مستويات معقولة من التضامن السياسي. وعلى هامش كل تلك الاعتبارات، التي تحول دون حكومة «غالبية سياسية» فإن طبيعة الأداء السياسي للنخب العراقية الحاكمة لا تشير إلى تبنيها منهجاً تصالحيّاً، مثلما أن أسلوب تشكيل القوى العراقية لا يشير إلى تبنيها برامج وأفكاراً تبتعد عن مبادئ «الدفاع عن الطائفة» ضمناً أو علناً. حكومة للإصلاح الحكومة المقترحة لا تُطرح بالطبع بصفتها حكومة «غالبية مذهبية أو عرقية» بل إن المدافعين عنها يتحدثون عن فشل حكومة «الشراكة» الحالية في تحقيق الأمن والخدمات، وإن تحميل طرف واحد مسؤولية إدارة الحكومة واختيار وزرائها واتخاذ قراراتها في مقابل معارضة برلمانية قوية هو الحل الأمثل لحل الانتكاسات الحالية. ويبدو هذا الطرح للوهلة الأولى منطقياً، ولكنه يهمل حقائق على الأرض من الضروري التذكير بها: - حكومة الشراكة ليس لها يد من قريب أو بعيد بملف الأمن الذي تحمّل مسؤوليته رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي، بقيادته وزارات الداخلية والدفاع وجهاز الاستخبارات ووزارة الأمن الوطني والاستخبارات في شكل مباشر عبر مكتبه أو عبر وزراء بالوكالة اختارهم بنفسه. - إضافة إلى الأمن يتحكم نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني وهو حليف مباشر للمالكي وأحد قادة كتلته بملفي النفط والكهرباء. - يدير المالكي ملف العلاقات الخارجية في شكل مباشر أيضاً، على رغم أن وزير الخارجية هوشيار زيباري كردي، فعلاقات العراق الخارجية لا تُعبر عن توجهات الأكراد أو طروحاتهم أو حتى علاقاتهم التي تبدو في كثير من الأحيان مختلفة تماماً عن علاقات الحكومة المركزية كما هي الحال في طبيعة العلاقة مع تركيا وعدد من الدول العربية. - ملف الخدمات في العراق مشكلة مؤسساتية الطابع في الأساس، فهو يخضع لمنظومات فساد إداري ومالي هائلة تمتد في جذورها إلى العقدين الأخيرين من حكم نظام صدام حسين، ولم تعدْ تستثني حزباً أو تياراً في الوسط السياسي العراقي، ولا يمكن أي جهة التأثير في إيقافها. وأكثر من هذا فإن الفساد الذي يقف حائلاً أمام تحقيق الخدمات الأساسية يحتاج إلى تضامن سياسي واسع النطاق لاقتلاعه بشجاعة من جذوره. ويمكن التذكير في هذا الصدد بامتناع البرلمان العراقي عن تمرير قانون «البنى التحتية» الذي يفترض أن يسمح لحكومة المالكي والتي تليها باستثمار نحو 39 بليون دولار في مجال الخدمات والإسكان بطريقة الدفع بالآجل، وإن ذلك الامتناع كان دافعاً لتجدد الحديث عن حكومة الغالبية. والربط بين «حكومة الغالبية» و «قانون البنى التحتية» محيّر في الحقيقة، فإذا كان شركاء المالكي في الحكومة امتنعوا عن تمرير القانون واعتبروا أنه سيخضع للفساد وسيستعمل لدعم طرف سياسي على حساب الأطراف الأخرى، فكيف يمكن افتراض أن هذه الأطراف نفسها يمكن أن تمرر القانون عندما تكون في المعارضة؟ في المحصلة، فإن الحديث عن إنهاء مرحلة «التوافق - المحاصصة» الحالية بصرف النظر عن التسميات التي تسبغ عليها، يتطلب رؤية تعبر على المماحكات والمساومات السياسية التي تجرى اليوم، لتندرج ضمن خطة عمل واستراتيجيات واضحة الملامح ومتفق عليها تنقذ البلاد من نكساتها وتنهي مراوحتها في المرحلة الانتقالية. وواقع الحال، أن لا إصلاحات قانونية أو سياسية أو مؤسساتية أو اجتماعية تلوح في الأفق، تُبشر بممارسة سياسية عراقية تنسجم مع المألوف الديموقراطي.