«شدود! نادوا على شدود!». يدخل شاب يقارب طوله المترين، عيناه اصابها حول، وبدا عليه شيء من التخلف العقلي. البدلة العسكرية «النظامية» التي ارتداها كأنما على عجل صغيرة على مقاسه فقوصت كتفيه وكشفت عن ساقين ورجلين متورمتين. لم يعرف «شدود» كما لم نعرف نحن، لماذا تم استدعاؤه على وجه السرعة. دخل مذهولاً ينظر في الوجوه، والوجوه بدورها تنظر اليه. هنا الضابطة الشرعية لبلدة تل رفعت، و «أبو عادل» رئيس «الضابطة» ومعاونه الاول «أبو لطوف» ارادا تعريفنا بالمعتقل «العلوي» الموقوف لديهما. بطيبة خاطر أراد الرجلان إظهار حسن معاملة كتائب «الجيش السوري الحر» للاسرى من جنود النظام، وهو نظرياً صحيح. فالفتى «شدود» (وهو اسم عائلته) أصيب خلال اقتحام وحدته التي قال عنها بنفسه «إدارية لا تشارك في القتال لانها تضم معوقين» فأسعفه «الجيش الحر» وأودع نظارة الضابطة الى أجل غير مسمى. لكن استعراضه بهذه الطريقة واستنطاقه بالسخرية من لهجته الساحلية، لم يفعل إلا أن زاد التعاطف معه عوضاً عن الاعجاب بهم. و «شدود» الذي ظن أننا من طرف عائلته حمّلنا سلاماً لوالدته، ووصية للجيش السوري بأن «الجيش الحر ليس عصابات مسلحة ولا إرهاب» كما كان يتم تلقينه، بل هم «أناس يخافون الله» بدليل أنهم يحفظونه القرآن ويسمحون له بالصلاة معهم. و «الضابطة الشرعية» هي عملياً المخفر أو قسم الشرطة في بعض بلدات ريف حلب. فهنا، الصبغة الدينية طغت على ما عداها. وإذ برزت الحاجة لمحاكم تسيّر شؤون الناس وتدير مصالحهم وتفض النزاعات بينهم، أنشئت تلك الهيئات لادارة الشؤون المدنية بمسميات جديدة. «أبو عادل» مثلاً الذي يرأس الضابطة في تل رفعت، كان رئيس قسم شرطة سابق ويعرف آلية العمل الاداري ويمكن القول انه في شكل أو آخر بقي في منصبه لكنه أضاف عليه نكهة تدين. فقد ترك لحية خفيفة، وراح يبالغ أحياناً في الاستشهاد بالآيات القرآنية، حتى إذا جاءه من يسأل عن مصدر صلاحياته قال بنبرة متشجنة «الحكم هنا حكم للشريعة وليس للقوانين الوضعية. جربناها تلك، ووجدنا أن القانون الالهي موجود فلم نخترع قانوناً؟». مساعده «أبو لطوف» الذي كان يعمل في البناء قبل الثورة، بدا أكثر بساطة ومرحاً. فهو بعكس «المعلم» (كما يناديه)، ابن البلدة ويعرف وجهاءها. ويقسم عمل الضابطة الشرعية الى مكتب لتلقي شكاوى المواطنين حيث تسجل الشكوى وتؤخذ شهادة المدعي عليه، فيحال الى غرفة جانبية حيث المحكمة ويشرف عليها شيخ أزهري ومساعد له ينادى تجاوزاً شيخاً. وتضم الضابطة نظارة وقسماً يرعى الشؤون البلدية من جمع نفايات وتأمين كهرباء وماء ومحروقات وغيرها. وتلك حال عدد كبير من القرى والبلدات الحلبية حيث لا يزال بعضها ينعم باستمرار جزئي لعمل للبلديات «المدنية» مثل مارع ومنبج وان بتفاوت. أما تل رفعت، فهي حالة شبه تامة من العسكرة. ويعمل مع «أبو عادل» 7 عناصر شرطة منشقين من تل رفعت والقرى المجاورة، ولديه تحت أمرته 27 مدنياً هم اساساً من الثوار المسلحين ثم تحولوا إلى العمل في الضابطة. وفي حال نشب عراك أو طرأ طارئ يتطلب قوة عددية أكبر، تتم الاستعانة بفريق من «أمن الثورة» وهو بمثابة الشرطة العسكرية «للجيش الحر». وغالباً ما يستتبع العمل النهاري للضابطة باجتماعات مسائية اسبوعية تضم «المسؤولين» العسكريين ووجهاء محليين لتقويم الاوضاع واجراء مصالحات عائلية توفيراً للدخول في اجراءات كثيرة. ويتلقى مكتب «أبو عادل» كل أنواع الشكاوى من جنح صغيرة الى جنايات مروراً بقضايا ديون وإرث وطلاق وغيرها. وأكثر الشكاوى تتعلق بتحصيل الديون والطلاق وخصوصاً تلك «المتراكمة منذ أيام النظام». لوهلة يشعر السامع كأن النظام السوري سقط فعلاً، ليعود «أبو عادل» ويستدرك قائلاً «نطبق العقوبات التعزيرية ولا نطبق الحدود. فتلك شروطها قيام الدولة الاسلامية ونحن في حال طوارئ». ويعاني الشرطي السابق من غياب الخبرات الادارية لدى من وجد نفسه فجأة قاضياً أو مساعد قاضٍ أو محققاً. فهو إذ يطلب جدولاً مفصلاً بالاحكام الصادرة للاشهر الثلاثة الماضية، يواجه بتمنع وعتب ل «قلة ثقته بفريق عمله»، فيضطر لتفسير فوائد الجداول والارشفة والايصالات المالية باذلاً جهداً كبيراً في الاقناع. وإلى السلطة التي يمنحها العمل في الضابطة لصاحبه، والمكانة الاجتماعية المستجدة يتقاضى العامل راتباً شهرياً يقارب 150 دولاراً، يصل مرة ويغيب مرات.