يؤكد الدكتور عبدالسلام الوايل أن الواقع الثقافي في السعودية اليوم أرحب بكثير، فللفكر حضور أقوى بكثير بل وله استهلاك جماهيري أوسع، بحسب رأيه، مما كان لشعر مرحلة الثمانينات والتسعينات. ويعزو ذلك إلى انتشار أساليب العيش المابعد تقليدي بما يتطلبه ذلك من تطلب لفكر ورأي جديدين. ويرى أن المجتمع المدني بدأ ينتج مؤسساته، مشيراً إلى أن المجتمع السعودي يعيش اليوم زمن أقرب للحداثة بمعناها الشامل. في حواره مع «الحياة» يتطرق الوايل إلى العلاقة بين الغذامي والبازعي، وفقاً إلى اشتغالات الاثنين، ليخلص إلى أن الأخير أكثر عمقاً وحذراً، لذلك هو أقل نجومية. الوايل يعتقد أن أحد أسباب انتشار الرواية في السعودية، تزايد حالة الاغتراب والبحث عن المعنى في التجربة اليومية... فإلى تفاصيل الحوار. في كتابه الجديد «القبيلة: عجز الأكاديمي ومراوغة المثقف» انتقد الدكتور نعيمان عثمان تردي البحث الاجتماعي، ووصف وضع البحوث في العلوم الاجتماعية في العالم العربي بالشنيع، إلى درجة أن الكتّاب أنفسهم، كما يقول، يصبحون جزءاً من السلطة العلمية المثبطة لأي تغيير، بصفتك كاتباً ومثقفاً وأيضاً أستاذ علم اجتماع، كيف ترى هذه المسألة؟ - لم أقرأ كتاب الدكتور نعيمان بعد. لكن هذه المسألة، أقصد وضع البحث العلمي في العلوم الاجتماعية في العالم العربي، أمر يستحق النقاش فعلاً. ولست في وضع يمكنني من إصدار أحكام في هذا المجال. لكن يمكن لي، كمختص ومهتم، أن أشارك في نقاش كهذا. ويمكن القول إن البحوث الاجتماعية تتضمن بعدين أساسيين: تقني وأيديولوجي. وفي ما يخص البعد الأول، فإن البحوث وأوعية النشر العربية تتفاوت في هذا المجال وتوجد توجهات مؤسسية أخيراً لعمل تراتبية في هذا الخصوص، ما سيؤدي لمعرفة أجود المجلات العلمية وهذه خطوة مهمة لفرز الجيد من الرديء. أما في ما يخص البعد الأيديولوجي، وهو ما أعتقد أن الدكتور نعيمان يقصده، فإنه يصعب حقاً إصدار حكم عام على البحث الاجتماعي يختصر الأمر في كل العالم العربي. فالعالم العربي متفاوت من حيث الأسس الفكرية لبناء الحقيقة في المجتمع الأكبر، وهذه هي النقطة الأهم في التوجيه الأيديولوجي للبحث الاجتماعي. وسيضاف إلى هذا التفاوت التطورات السياسية الأخيرة والتي ستدخل تغييرات هائلة في علاقة مؤسسات صنع الحقيقة، ومن ضمنها الجامعة والبحث العلمي، مع المجتمع في كل الأقطار العربية. يمكنني أن أعارض الدكتور نعيمان على تعميمه هذا وأقترح بدلاً من هذا التعميم، حكماً أكثر تبصراً بالتنوعات داخل التنظيم الاجتماعي للبحث العلمي، إذ يمكن ملاحظة تأثير عامل مؤسسي في مسألة طبيعة الدور الذي يمارسه الأكاديميون باسم السلطة العلمية. لكن في كل الأحوال يمكن الاتفاق مع الدكتور نعيمان في الاستغراب والدهشة من أن علوماً بطبيعتها نقدية للواقع، مثل العلوم الاجتماعية، تُبنى اجتماعياً لتكرس سلطة تعارض نقد الواقع وتحاول المحافظة عليه كما هو. تستبدل السلطة العلمية هنا وظيفتها تجاه الواقع ما يؤدي لحالة فراغ في النقد المعرفي للواقع الاجتماعي، ليقوم ناشطون ومثقفون غير متخصصين بملء هذا الفراغ. تعتبر أن العلم والمنهج والحقيقة والموضوعية وغيرها من ألفاظ الوضعية والعلموية لم تكن في المشهد المعرفي الغربي المعاصر إلا أقنعة للتحيز، وأنه تحيز شديد الفعالية قادر على إخفاء نفسه بسبب تلك المفهومات المتعالية. في المقابل وفي الوقت نفسه، كانت تلك الألفاظ والمفاهيم، كما ترى، هي أدوات نضال الطليعة المثقفة في مجتمعاتنا ضد التقليد والجمود، لتخلص إلى أنها مفارقة تاريخية، ما يعني أن الحداثة لدينا لم تكن مبنية على أسس متينة، على قاعدة معرفية عميقة، ما يعني أيضاً أنها هشة ومرهونة للمتغيرات في الخارج، أليس كذلك؟ - ماقصدته أن هناك حالتين تاريخيتين يتم فيهما تداول المصطلحات أعلاه: حالة إنجاز الحداثة وحالة السعي إلى إنجازها. في حالة المجتمعات التي أنجزت الحداثة، كالمجتمعات المتقدمة عموماً، يكون نضال جزء من المثقفين، الذين يطلق عليهم ما بعد الحداثيين، هو في نقد يقينية الحداثة و غرور ادعاءاتها عبر تقويض هذه المصطلحات وكشف انحيازاتها ووظائفها في إدامة احتكار الحقيقة وعبر فضح زيف ادعاءاتها، فأكبر الكوارث البشرية وأشد الحروب فتكاً تمت في عهودها . أما في المجتمعات التي لم تنجز الحداثة بعد، فإن هذه المصطلحات تكون أدوات نضال لإنجاز قطيعة مع أنماط العيش والتفكير الماقبل حداثية. الأمر يشبه موقف ماركس، مثلاً، من الطبقة البرجوازية. فهي في نظره، طليعية مناضلة ضد الإقطاع رجعية متسلطة ضد الاشتراكية. المفارقة أن موقف المثقف العالمثالثي المابعد حداثي يكون مشوشاً، فهو يريد لمجتمعه أن ينجز الانتقال إلى الحداثة باعتبارها تقدما في سلم الارتقاء البشري عما قبلها وفي نفس الوقت يعي التحيز الكامن في مقولاتها وغرور إدعاءاتها بل وفي مدى فعالية الشرك الذي توقع الإنسان فيه. دعيني أقول أني أحسن الظن بالتقنية وبها أؤمل. أعتقد أن التطورات في التقنيات الاتصالية تتيح أملاً للبشر ليشاركوا بشكل مباشر أكثر من ذي قبل في صياغة أساليب حياتهم. بحكم تواجدك في جدة في بدايات التسعينات، وقربك أيضاً من مفاعيل الحداثة آنذاك وربما قبل هذه الفترة، كيف ترى زمن الحداثة في جدة، التي تعد إحدى مدن الحداثة في المملكة، بخاصة وأن منابرها الصحافية كانت الأكثر تفاعلاً مع الجديد والإشكالي، وضمت العديد من رموز هذا التيار؟ - السؤال ملغوم اصطلاحيا. ف»مدن الحداثة في المملكة» تحيل إلى معنى أوسع من مجرد الحداثة الأدبية. لست أدري إلى متى وكلمة الحداثة تحمل معنى الحداثة الأدبية فقط في واقعنا، رغم أن المعنى الاصطلاحي للكلمة يشير إلى زمن الآلة والمصنع عقب زمن الحرفة والمحل. المهم، حين انتقلت إلى جدة كان كتاب عوض القرني «الحداثة في ميزان الإسلام» قد صدر وبدأ يؤتي أؤكله، كانت الحداثة تتعرض لهجمة قوية ومن ثم فإن صوتها الملعلع في الصحف كان في تراجع. ما يمكن قوله عن تلك المرحلة، سعودياً بشكل عام وليس جداوياً فقط، هو سيطرة الأدب على الثقافة وسيطرة الشعر على الأدب. الواقع الثقافي اليوم أرحب بكثير فللفكر حضور أقوى بكثير، بل وله استهلاك جماهيري أوسع مما كان لشعر مرحلة الثمانينات والتسعينات. ربما أن هذا بسبب انتشار أساليب العيش المابعد تقليدي بما يتطلبه ذلك من تطُلب لفكر ورأي جديد. أيضاً، في العقد الأخير، نلاحظ تراجع الشعر لصالح الرواية كما أن المجتمع المدني بدأ ينتج أخيراً مؤسساته، نحن في زمن أقرب للحداثة بمعناها الشامل. لقد كانت الحداثة الأدبية في تلك الفترة حداثة نص بتجربة مدنية بسيطة ولذا كانت القاعدة الاجتماعية لتلك التجربة، أقصد متذوقي النص الحداثي والمحتفين به، محدودة. لم تكن أساليب العيش غير التقليدية قد شهدت هذا التوسع ولم تكن وسائل الاتصال بهذا الانفتاح. في كل الأحوال، تصاحبت مع تلك الموجة الأدبية سلوكيات إنسانية جريئة ومتقدمة. إني متأكد من أن الزمن سينصفها في المستقبل. الثقافة في المملكة من تهميش إلى تهميش، في السابق كانت تحت هيمنة الرياضة، واليوم تنمو تحت سطوة الإعلام، وبين الرياضة والإعلام كيف ترى مستقبل الثقافة؟ - من الناحية التنظيمية البحتة، تحتاج الثقافة إلى جهاز مستقل خاص بها. الثقافة تضم الفلكلور والآداب والفنون والتراث. إنها أكبر شأناً من أن تُلحق بالرياضة أو بالإعلام. المشكلة أن كلاً من الرياضة والإعلام كائنان مهيمنان. الصور الذهنية عن رئاسة الشباب وقت أن كانت الثقافة ملحقة بها أنها مؤسسة للرياضة والصورة الذهنية اليوم عن وزارة الأعلام أنها جهاز للإعلام. لقد نظم معرض الكتاب ضمن فعاليات السنة الماضية لقاء لوزير الثقافة والإعلام سمي بلقاء وزير الثقافة مع المثقفين. اللقاء قدم له وأداره، في الجانب الرجالي، «المثقف» حمد القاضي وعلى رغم أن القاضي أبلغ الجمهور أن الوزير قال له «لقد خلعت بشت الإعلام ولبست بشت الثقافة هذه الليلة» إلا أن حمد القاضي ومن موقعه كمدير للقاء ضل يقرأ أسئلة الإعلاميين ويعطي المجال لرؤساء ومديري تحرير الصحف للمداخلات، ويعلي طوال اللقاء من الشأن الإعلامي على حساب الشأن الثقافي. إذا كان المثقف في لقاء وزير الثقافة بالمثقفين والذي قال فيه الوزير إنه يلبس بشت الثقافة لم ير في ذلك اللقاء إلا وجوه الإعلاميين وقضاياهم ومداخلاتهم وأسئلتهم فكيف سيكون حال الثقافة في اليومي والعادي من أمور الوزارة وأشغالها. وعلى رغم أن ضم الثقافة للإعلام صاحبه حماسة من الوزارة فعينت وكيلي الثقافة من قطاع المثقفين، باقادر والسبيل، فإن الأيام تكفلت برجوع الأمور إلى مسارها المعتاد بتكليف الإعلاميين بتسيير أمور الثقافة حين شغور فرعيها من الوكيلين المثقفين. تمثل الطفرة الروائية في المملكة مناسبة لمراقبة المجتمع من خلالها، وفرصة أيضاً للباحثين الاجتماعيين لتأمل هذه الظاهرة وتفسير أسبابها، هل من جديد يمكن لك أن تقوله كمهتم ومتخصص؟ - هذه الظاهرة تهم المثقفين بعامة والمختصين بسوسيولوجيا الرواية بشكل خاص. وتاريخياً يمكن تذكر أن الرواية ارتبطت بانتهاء الإقطاع، بالعصر الرأسمالي، بظهور الطبقة البرجوازية. مجتمعنا شهد تحولاً سريعاً نحو الرواية، إنتاجاً واستهلاكاً. السؤال هو عن أسباب هذا التحول: هل هو بسبب تحولات في البناء الاجتماعي أوجدت رواجاً لهذا الفن التعبيري أم بسبب تحول في ذائقة مجموعة من المثقفين المحليين من الشعر إلى الرواية قدموا على إثره الرواية للمجتمع الأكبر فساهموا بنشر الإقبال عليها؟ ربما يكون الأمر مزيجاً من العاملين، البناء الاجتماعي واختيارات النخبة المثقفة، تزامنا معاً. إن ما أطرحه هو مجرد فرضيات لا إثبات عليها حتى الآن. لكن تزايد حالة التمدين بما رافقها من ارتفاع مستوى التعليم وتزايد مكانة المرأة وذيوع ثقافة السينما كلها أمور صبت في مصلحة ترويج الرواية. أبقى حذراً، وإن راغباً، في طرح فرضيات أكثر من قبيل تزايد حالة الاغتراب والبحث عن المعنى في التجربة اليومية، هل توجد هذه العذابات الحداثية لدينا؟ إن الرواية أنسب من الشعر في ملامسة الأسئلة الوجودية لإنسان الحداثة. بدت توقعاتك بقرب نهاية إسرائيل مثيرة للتساؤلات وكأنك تنجرف خلف مقولات غيبية، أكثر منها معطيات موضوعية، لكن الفكرة نفسها، نهاية القوة الإسرائيلية أثارت أيضاً شجون الكثير من المسحوقين، بنظرة واقعية هل يمكن فعلاً أن تكتب النهاية لهذه القوة الغاشمة، وما دور العرب في ذلك؟ - ما توقعته هو نهاية شرعية إٍسرائيل في القلوب والأفئدة، وهو ما سيُترجم إلى نهاية قوة إسرائيل. كتبت هذا الكلام قبل بداية التحولات الديموقراطية في العالم العربي، كتبته بسبب خطوات الحزم الذي بدأها أوباما تجاه إسرائيل، وهي خطوات لم تستمر بل وانكسرت. تصور الضعف المستقبلي للقوة الإسرائيلية قائم على قراءة ما للتناقض بين قيم الغرب، الداعم الرئيسي لإسرائيل، وبين أساسيات قيام إسرائيل وطبيعتها واستمرارها. أرى تناقضاً هنا بين مبادئ العدل والحرية وبين دعم الاحتلال والتمييز. طبعاً، الحكاية معقدة فهناك عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود، فاليهود أبرز ضحايا التمييز والقمع في التجربة الغربية. إن الهجوم على اليهود يذكر الغرب بأسوأ ما فيه. وبناء على ذلك، يكون العقل الغربي متخوفاً جداً من أي نقد لجماعة يهودية. ما يسهم في قوة إسرائيل أن خيارات الفلسطينيين، بين المفاوضات والمقاومة المسلحة، تدعم عوامل القوة الإسرائيلية. إذا قدّر الفلسطينيون على اجتراح خط طريق مختلف، خط شبيه بخيار غاندي أو مانديلا أو زنوج أميركا أو حتى انتفاضة الثمانينات غير المسلحة، فإن رصيد إسرائيل في العقول والأفئدة سيتآكل، وبالتالي ستتسارع حملة نزع الشرعية عنها. عندها، لن تكون مكانة إسرائيل عالمياً، وتحديداً لدى أميركا، كما هي اليوم. إني أؤمن بأن ثمة قدر من العاطفة والتاريخ والقيم في علاقات الأمم والدول، الأمر ليس عقلانية محضة. ثمة حب لإسرائيل في أميركا تحديداً وثمة إمكان بتآكل هذا الحب إن قدر الفلسطينيون على إظهار التناقض بين القيم التي يفتخر الأميركان بتبنيها وبين نهج إسرائيل في إخضاعها شعباً آخر للاحتلال على مدى عقود بلا أمل أو عدل. الأمر سيزيد سوءاً على إٍسرائيل لو طالب فلسطينيو الضفة المقطّعة أوصال قراهم بالمستوطنات بالجنسية الإسرائيلية. ما الذي يشغلك اليوم، خلال انتفاضة الشعوب؟ - يشهد العالم العربي اليوم تحوّلات كبيرة وعميقة تنصب أولاً على علاقة الدولة بالمجتمع، وتتفرع لتتصل بمسائل النهضة والديموقراطية وحقوق الإنسان والنجاح الاقتصادي. المخزون الحضاري والشباب والثورة التقنية في وسائل الاتصال وتشوّه نموذج الدولة التسلّطية عوامل أسهمت في هذا الاختراق التاريخي. ما يشغلني اليوم هو ملاحظة هذا التحوّل، قراءة آلياته بعمق ومحاولة معرفة شكل المستقبل. إنه لأمر مثير أن ترى التاريخ يتحرك.