في بداية الثورات العربية، نشرت على هذه الصفحات مقالاً بعنوان «كي لا يصبح العالم العربي عراقاً كبيراً». ولئن كانت الأوضاع اليوم في تونس وليبيا ما زالت تحمل الكثير من الأمل، مع أنه أمل أضعف مما كان سائداً عند نشر ذلك المقال، فإنّ ما يحصل في مصر وسورية يقترب بنا، لأسباب مختلفة وبطرق متباينة، إلى السيناريو العراقي الكارثي. وقد يرى بعضهم أنّ سبب الكارثة العراقية يعود إلى التدخل العسكري الأميركي عام 2003، وهذا نصف الحقيقة، فالولاياتالمتحدة كانت تدخّلت بعنف أكثر في اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية، مخلّفة دماراً أكبر، ومستعملة، في حالة اليابان وللمرّة الأولى والأخيرة، السلاح النووي، ولم يمنع ذلك من تحوّل هذين البلدين إلى الازدهار والقوة بعد سنوات معدودات من الحرب. ذلك أن الولاياتالمتحدة طبقت آنذاك نظرية الانتقال الديموقراطي في البلدين، لأن مجاورتهما للاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية كانت تهدّد مصالحها إذا تركتهما يسقطان في الفوضى ويصبحان فريسة للدعاية الشيوعية والتأثيرات السوفياتية. ونظرية الانتقال الديموقراطي هذه هي التي طبقت بعد ذلك في أوروبا الشرقية عند تخلّصها من الهيمنة الشيوعية، وفي أميركا اللاتينية بعد تخلصها من الديكتاتوريات العسكرية. أما في العراق، فقد اختارت الولاياتالمتحدة تطبيق نظرية «الفوضى الخلاقة»، فكانت النتيجة ما رأينا وما نرى، وواصل «حزب الدعوة الإسلامي» بقيادة نوري المالكي ما بدأه المفوّض الأميركي بول بريمر بعد الاحتلال، فضلّ العراق طريقه نحو إعادة البناء والقوّة بعد عقود من الديكتاتورية البعثية، وانتقل من استبداد العسكر إلى دمار الفوضى. «الإخوان المسلمون» في دول الربيع العربي سيرتكبون خطأ قاتلاً لو سلكوا مسلك حزب الدعوة في العراق ونهجوا منهج «الفوضى الخلاقة» وفتحوا أبواب الفتنة الدينية على مصاريعها. وقد أصبح من «الإخوان» من يسوّق هذه النظرية تحت عبارة «التدافع» وبتأويل أميركي متعسّف لآيات قرآنية. إنّ إعادة البناء لا تحصل بالفوضى، ولا بالتدافع، ولا بترك الناس يتقاتلون في الشوارع، ولا بترك المعارضين يصرخون من دون جدوى، ولا بتنظيم جولات الحوار التي لا يحضرها إلا الحلفاء، ولا بتحويل الأنظار عن الفقر والبؤس بقضايا مجرّدة مثل الهوية والشريعة. ثمة نظرية واحدة أثبتت نجاحها في إسبانيا والبرتغال وأوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وإفريقيا الجنوبية وهي نظرية الانتقال الديموقراطي. هذه هي الحلّ الوحيد، ما عداها يجرّ إلى الدمار. في مصر، اغتال «الإخوان» مسار الانتقال الديموقراطي يوم فرضوا دستوراً إخوانياً على عموم المصريين، محوّلين الأقباط والليبراليين واليساريين إلى «أهل ذمة» ومواطنين من الدرجة الثانية، وقسّموا الصفّ الثوري بعد أن وصل محمد مرسي إلى منصب الرئاسة بفضل مساندة الليبراليين واليساريين، فلولا مساندة هؤلاء لما تحصّل مرسي على المليون صوت التي رجحت كفّته أمام منافسه أحمد شفيق. وفي سورية، تغتال قوى إقليمية الثورة السورية بدفع آلاف المقاتلين المتشدّدين نحو الأراضي السورية مثلما دفعت إيران بميليشياتها في العراق أثناء التدخل العسكري الأميركي، وندرك كم سيكون صعباً بعد ذلك التخلّص من الدخلاء، وكم سيكون دور هؤلاء ضاغطاً، حتى إذا افترضنا أنهم أقلية محدودة، في إفساد كل مشاريع البناء والاستقرار، لأن الوطن لا يعني لهم شيئاً، ولا النموّ والازدهار والحرية. فأي ديموقراطية ستبنى مع وجود هؤلاء؟ وأي مسار ديموقراطي يمكن أن ينجح في هذه الظروف؟ على الرئيس المصري أن يسارع بتعديل المسار، ويفتح حواراً حقيقياً مع كل القوى الثورية التي أوصلته إلى سدّة الرئاسة، ويدفع إلى إعادة تعديل المواد المختلف حولها في الدستور، ويعيد الوئام والوحدة إلى الشعب المصري الذي لم يحدث في تاريخه الطويل أن هُدِّدت وحدته مثلما هي مهدّدة اليوم. وعلى المعارضة السورية أن تتصدّى بحزم وقوّة لهذا التحويل الخطير لوجهة ثورتها المجيدة، وأن تتفق على مشروع واضح وتنطق بصوت واحد في القضايا الأساسية، وأن لا تتوانى عن إعلان حربين، لا حرب واحدة، إحداهما ضدّ السفّاح بشار الأسد ونظام البعث الفاشي، والثانية ضدّ وجود «القاعدة» وأخواتها في سورية، وكلّ مظاهر التطرّف الإسلامي عموماً، بشراً وسلاحاً وأموالاً وفكراً. وعلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو يفتتح ولايته الثانية، أن يتخلّص من بقايا المحافظين الجدد في أروقة وزارة الخارجية ودوائر القرار والتأثير المتصلة بالشرق الأوسط، إذ ما زال هؤلاء نافذين هناك، وما زالوا يدفعونه إلى السياسة القائمة نفسها على مهادنة إسرائيل وتركها تفعل ما تريد وجعل مسألة أمنها المقياس الوحيد في كل قضايا المنطقة، وتقويم مواقف «الإخوان المسلمين» وسياساتهم من منظور واحد وهو تهديدهم أو عدم تهديدهم لإسرائيل. وعلى الجميع أن يطلّق اليوم نظرية الفوضى الخلاقة التي ابتدعها المحافظون الجدد، بعد أن اتضح فشلها المطلق، وأن يعود إلى نظرية الانتقال الديموقراطي التي جرّبت ونجحت في حالات كثيرة، وهي نظرية تقوم على عشرة أركان: دستور توافقي، عدالة انتقالية، قضاء مستقلّ، جبر الأضرار لضحايا القمع وجرحى الثورة وأسر الشهداء، إجراءات اجتماعية مستعجلة للفئات الأكثر بؤساً، عفو تشريعي عام، حماية الذاكرة، إحداث هيئة مستقلة ومحايدة للإشراف على الانتخابات، إحداث هيئة تعديلية محايدة للإعلام، تحييد الخطاب الديني عن التجاذبات الحزبية.