العلاقة بين القصة والخبر علاقة أصيلة. فالقصة تروي حكاية تنطوي على خبر ما. أي أن فن القصة في الأصل هو شكل من أشكال الإخبار أو الإنباء، ولكن في قالب حكائي. خبر متسلسل يبدأ وينتهي بانتهاء الحكاية. على أن هذا لا يعني أن القصة القصيرة هي مجرد إخبار، أيًّا يكن شكل هذ الإخبار. ولئلا نغوص في تعريفات فن القصة، فإننا نكتفي بالقول إنها خبر يتدخل في صوغه وطريقة نقله المخيال الإبداعي. أي أن القصة الفنية لا تكتفي بنقل خبر كما حدث، وكما تسلسلت وقائعه، لكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأعمق. وفي الأحوال كلها، فإن تقديم الأخبار التلفزيونية، تطور كما تتطور وسائل الإعلام والاتصال والفنون والأجناس كلها. فبينما كان ثمة رجل أو امرأة، يجلس/ تجلس أمام المشاهد، ويسرد/تسرد أخباراً متنوعة في السياسة والاقتصاد والفن والرياضة، فإننا نرى ذلك الآن مختلفا تماماً. لقد أصبح ثمة مراسل صحافي يعد تقريراً من مكان الخبر، ويقرأه على الناس. وقد يتضمن هذا التقرير مقابلات ولقاءات مع شهود عيان، ومع محللين مختصين في موضوع الخبر، ناهيك عن الكاميرا التي تصاحب التقرير، لتترجم ما يقوله، وتؤكده. هذا يعني أننا أمام نص مكتوب ومسموع ومرئي. وهو نص قصصي تحل فيه الصورة مكان المخيال، لتنقل مباشرة أو لتسجل الحدث. وتلعب اللقاءات والحوارات دور تعدد الأصوات في النص الواحد. كما يلعب المحلل دور الناقد الأدبي بامتياز. لم يعد التقرير الإخباري مجرد نقل للخبر كما حدث. فقد أصبحت للتقرير بصمة خاصة بكل مراسل. وهي بصمة تنتجها اللغة، وحركة الكاميرا، وتعدد الأصوات، إضافة إلى ما يقوم به المراسل من ربط محكم بين الخبر ونصوص أخرى، سواء كانت أدبية أم أسطورية أم تاريخية. وبهذا المعنى يمكن النظر الآن إلى التقرير الإخباري المصور، أو الرسالة التلفزيونية، على أنها نص قصصي، تتوافر فيه كل عناصر القص، الأمر الذي يخلق تباينات واضحة في السوية الفنية بين الرسائل، بحسب كاتبها ومرسلها وبقية الفريق العامل فيها. هل هذا هو ما يسمى تداخل الأجناس والأنواع؟ أحب أن افهم الأمر على نحو آخر. وهو أن القصة هي أصل الأجناس السردية كلها. وربما تشهد على ذلك نشأة الخرافة والحكاية الشعبية. ومن يقرأ كتاب بروب الشهير «مورفولوجيا الحكاية الشعبية» يلحظ هذا القاسم المشترك بين خرافات الشعوب وحكاياتها، ما يوحي بنشأة أممية للقصة القصيرة، التي هي في الأصل حكاية تخبر عن شيء. فقد تبين لبروب أن للحكاية الشعبية أياً كان منشؤها وموقعها، وظائف محددة لا تتجاوزها، وهي لا تتجاوز اثنتين وثلاثين وظيفة، أو ست عشرة وظيفة فيما لو اختصرنا كل ثنائية إلى وظيفة واحدة، كالذهاب والإياب، والإقدام والتراجع، وما إلى ذلك. بات واضحاً الآن، أن الرسالة التلفزيونية، آخذة في التحول إلى قصة تعتمد الحكاية والسرد والحوار، وتوظف المكان بما يخدم النص. ولكن، ثمة عوامل عدة تساعد المراسل التلفزيوني على هذا التحول، أبرزها التنافس بين الرسائل التلفزيونية، بحيث أصبح هاجس التنميط لدى كثير من المراسلين، حافزاً ودافعاً للبحث عن صياغات أخرى مغايرة، ومفارقة للصيغ التي درجت عليها وكالات الأنباء من قبل. ولا ينبغي لنا أن ننسى الدور الذي تلعبه القراءة في الرسالة التلفزيونية، أي الإلقاء، تماماً كما لو كنا نستمع إلى نص سردي في ندوة أدبية. ولعل ما يتمتع به بعض المراسلين من مقدرة على ضبط إيقاع الحكي، وتلوينه صعوداً وهبوطاً، علواً وخفوتاً، يجعل من مراسل ما أكثر قبولاً من سواه. نحن إذًا أمام نص جديد تماماً، لا من باب تصنيف دريدا أو اتباع نظريته القائلة إن كل شيء في الحياة هو نص، كتناول الطعام وركوب الحافلة، وإنما من باب ظهور نص سردي مصور جديد، لم يكن ثمة ما يؤشر إلى ظهوره قبل سنوات أو عقود قليلة. وهذا يعني أن التطور الثقافي والعلمي قادران على منحنا مزيداً من الفرص لاكتشاف العديد من مجالات التعبير الفني. لكنّ هذا النص الجديد، القريب أو المتاخم لفن القصة القصيرة، يفتقر حتى الآن إلى هامش التأويل، أو أن هذا الهامش لا يزال ضيقاً وفي حدوده الدنيا بعد. والسبب في ذلك هو ارتباط هذا النص بواقعة موضوعية كحرب قائمة في مكان ما، أو جريمة قتل أو سطو مسلح أو مطاردة. وضيق هامش التأويل يؤشر إلى دور الصورة أيضاً، التي تحد من اندفاع الخيال الإنساني، ناهيك عن المقدمة التي لا يزال المذيع ملتزماً بها قبل إيراد الرسالة التلفزيونية. وإذا كانت الرسالة التلفزيونية شهدت هذا التطور منذ سنوات عدة، فإننا لا نستبعد مزيداً من تطورها، لناحية اقترابها أكثر من القصة القصيرة. ولا أشك لحظة في أن بعض مروجي نظرية تداخل الأجناس سوف يجدون في هذه المقاربة صيداً متباين الحجم والقيمة. ولكننا نقول منذ اللحظة: إن هذا النص ليس له علاقة بتداخل الأجناس. إنه نص مستقل، استفاد من القصة والواقعة الموضوعية والسرد والصورة. وهذا أيضاً لا يعني أن القصة القصيرة في طريقها للتحول إلى جنس آخر هو الرسالة التلفزيونية. كل ما في الأمر، هو أن هذا النص تمكن من لملمة عناصر بنائية عدة من أجناس أدبية وأنواع فنية عدة. وكان أن رأيناه أقرب ما يكون إلى القصة القصيرة. وإذا كان الأمر كذلك، فلأن فن القصة في الأصل قد قام على سرد الحكايات في قالب فني. ولم يكتف بأسلوب الأمهات والجدات في سرد الحكاية الشعبية، حيث الالتزام الرزين بالتسلسل الزمني، وتواتر الأحداث والوقائع التي تؤدي في النهاية إلى حل المعضلة التي تنشأ في البداية. وإذا كان البعض في هذه الأيام يتحدث عن موت القصة القصيرة أو انحسارها لمصلحة الرواية، فإننا لا نستطيع الرد بأن القصة تتحول إلى رسالة تلفزيونية، أو حتى تحقيق صحافي. حيث تبدو كثير من التحقيقات الصحافية الممتعة قريبة من السرد القصصي أيضاً. لم تمت القصة، ولم تتحول إلى جنس لم يكن موجوداً من قبل. وإذا كانت الأسطورة تحولت إلى ملحمة، والملحمة إلى رواية، فإن هذا ليس قانوناً أزلياً وأبدياً يقضي بتحول الجنس الأدبي بالضرورة إلى جنس آخر لم يوجد بعد. فالرسالة التلفزيونية في هذا السياق ليست فناً أو جنساً متحولاً من جنس آخر، لكنها جنس جديد أملته الضرورة الفنية والتطورات التكنولوجية، والمقدرة على مراقبة ما يحدث في أي مكان في الكون في اللحظة ذاتها. وهو أمر لم تكن القصة معنية به يوماً ما. وعليه فإن الحكاية الموضوعية أو الواقعة أو الخبر، هي العنصر الرئيس في هذا النص الجديد، على عكس القصة القصيرة المعروفة، التي تبني حكايتها الخاصة، بأسلوبها الخاص. ولكن أهم ما تشترك فيه القصة القصيرة مع الرسالة التلفزيونية، هي لغة السرد التي تطورت مؤخراً في الرسالة التلفزيونية، من لغة جافة ومباشرة، إلى لغة مليئة بالمجاز والاستعارة.