يعتبر غريغ أراكي GREGG ARAKI الأميركي ذو الجذور الآسيوية والبالغ من العمر 55 سنة، من أهم السينمائيين المستقلين في هوليوود، أي أنه لا يخضع للشركات المنتجة الضخمة التي تفرض على السينمائيين المواضيع التي يجب معالجتها والأسلوب الواجب إتباعه في سردها سينمائياً من أجل أن تحظى بإعجاب العدد الأكبر من المتفرجين. وأفلام أراكي تنتجها شركات متوسطة الحجم تؤمن بموهبته الفنية وتترك له العنان كي يكتبها وينفذها بأسلوبه. وبين أفلام أراكي المميزة الحاصلة على جوائز تكريمية، «كابوم» و»الوجه المبتسم» و»الجيل المحكوم عليه» و»الجلد الغامض». شارك أراكي في مهرجان السينما الأميركية في مدينة دوفيل الفرنسية، بفيلمه الجديد «عصفور أبيض في عاصفة ثلجية» في إطار المسابقة الخاصة باحتفال المهرجان بعيده الأربعين، برعاية لجنة تحكيمية ترأسها السينمائي الفرنسي الكبير كوستا غافراس. والتقت «الحياة» أراكي وأجرت معه هذا الحديث. يروي فيلم «عصفور أبيض في عاصفة ثلجية» حكاية مراهقة كبرت في جو عائلي متفتت بسبب الخلافات الدائمة بين والديها، وذات يوم تختفي والدتها من دون أن تستطيع لا الشرطة ولا العائلة العثور عليها، إلى أن تبدأ المراهقة في العثور على ما تعتقدها أدلة صغيرة على أن والدتها قد راحت ضحية جريمة قتل بشعة. والفيلم من بطولة نجمة هوليوود الصاعدة شايلين وودلي وبطل أفلام المغامرات توماس جين والممثلة الفرنسية الهولندية إيفا غرين (ابنة النجمة الفرنسية مارلين جوبير). في دوفيل التقت «الحياة» أراكي وحادثته. أين تعلمت المهنة السينمائية أصلاً؟ - لم أتعلم السينما بالمعنى التقليدي، لكنني أحببتها من خلال قراءاتي الخاصة بها وأسماء كبار مخرجيها الإيطاليين، مثل فيسكونتي وفيلليني وكومنشيني، الذين فتحوا شهيتي على استخدام الكاميرا من أجل التعبير عن شيء ما كامن في نفسي. سافرت وأنا بعد في سن المراهقة إلى أوروبا، لا سيما لندن وثم إلى روما وباريس، لأنني شعرت أن هناك حياة أخرى خارج حدود الولاياتالمتحدة، وأردت أن أرى ما هي هذه الحياة بالتحديد. ما الذي لم يعجبك في أميركا؟ - لم أقل ذلك، بل على العكس أعترف لك بأنني من أشد المعجبين بالسينما الهوليوودية العائدة إلى زمن الخمسينات من القرن العشرين، خصوصاً الكوميدية منها، وأيضاً الأفلام التي أنتجت في الأربعينات والتي تناولت موضوع الجاسوسية مثلاً، لكنني لا أتلهف على ما تقدمه هوليوود الآن ومنذ الثمانينات، فقد تغير الوضع وصرنا في إطار العقلية التجارية البحتة لا الإبداع الفني، الأمر الذي لا يقلل من شأن براعة استخدام وسائل الإخراج الحديثة، مثل الكاميرات الرقمية والأبعاد الثلاثية وما يتبع ذلك من تكنولوجيات متطورة، لكن العيب يكمن في المضمون أي في سيناريوات، بحسب رأيي الشخصي. هل لذلك قررت الانتماء إلى فئة المخرجين المستقلين؟ -نعم، فأنا مولع جداً بعنصر الاستقلالية بالتحديد ولا أتخيل نفسي أسخّر طاقتي وموهبتي في خدمة شركة منتجة ضخمة تأمرني بتنفيذ فيلمي طبقاً لما تراه هي يناسب الجمهور العالمي العريض. لست خادم أستوديوات هوليوود على رغم احترامي الشديد لها. لنعد إلى تجربتك الأوروبية، فماذا علمتك الحياة التي تتكلم عنها؟ - نعم، فأنا في خلال فترة إقامتي في لندن كنت أقضي وقتي في مشاهدة ربما أربعة أو خمسة أفلام سينمائية في النهار، خصوصاً أنني كنت قد اكتشفت دار سينما متخصصة في عرض الأفلام الكلاسيكية لكبار المخرجين العالميين، ولا شك في أن ثقافتي السينمائية تبلورت من خلال هذه التجربة. واكتشفت لدى السينمائيين الذين شاهدت أفلامهم، طريقة مشابهة لأسلوبي الشخصي في التفكير وفي النظر إلى أمور الحياة من زوايا عدة، ورحت أخوض تجربة التصوير السينمائي بنفسي وبواسطة كاميرا صغيرة، ونفّذت فيلماً تسجيلياً شاهده في ما بعد أحد المنتجين الأميركيين المستقلين فطلب مني المشاركة في مشروع كان يهدف إلى تصوير مجموعة من الأفلام القصيرة حول نظرة مخرجين إلى المجتمع الأميركي المعاصر، وفعلت. وما حدث لاحقاً هو أن هذا الفيلم عرف النجاح في المناسبات السينمائية الدولية أينما عرض، وسمح لي بالتحول إلى مخرج معترف به رسمياً، حالي حال هؤلاء الذين أثروا فيّ بأفلامهم وجعلوني أحب وسيلة التعبير السينمائية وأقرر اللجوء إليها بدوري. وأود التركيز على نقطة مهمة، هي كوني أبحث دائماً في الأفلام عن المضمون السياسي، لذا تجدني من أشد المعجبين مثلاً بأفلام كوستا غافراس فهي تتميز دائماً بخلفية سياسية عميقة مهما كان الإطار الذي يغلف هذه الخلفية، من عاطفي أو بوليسي أو حتى فكاهي في بعض الأحيان. كوستا غافراس بالتحديد هو رئيس لجنة تحكيم المهرجان هذا العام، وهو بالتالي سوف يحكم على فيلمك «عصفور أبيض في عاصفة ثلجية»، فهل عبّرت له عن مدى إعجابك بأفلامه؟ - لا طبعاً، وذلك خوفاً من أن يظن أنني أسعى إلى التأثير على حكمه. وربما أنني سأواجهه عقب سهرة الختام التي ستعلن فيها الجوائز. رسالة سياسية تقول إنك تبحث عن المضمون السياسي في الأفلام، فهل تعني أن أعمالك السينمائية في النهاية كلها سياسية؟ - نعم مئة في المئة، لكنني أخفي السياسة في قلب قصة اجتماعية درامية مسيلة للدموع أو مثيرة للضحك، بحسب مزاجي أثناء كتابة السيناريو. ما سبب هذا التحايل؟ - لا يهوى الجمهور مشاهدة الأفلام السياسية الصريحة البحتة، ويجدها مثيرة للملل إلى حد ما، وأنا أشاركه رأيه، لذا أفضل وضع الرسالة التي أرغب في تبليغها إلى المتفرج في غلاف يتميز بمظهر مختلف وأكثر جاذبية. وما هي إذاً الرسالة الكامنة في فيلم «عصفور أبيض في عاصفة ثلجية»؟ - تتلخص الرسالة في المسؤولية الواقعة على عاتق الدولة بخصوص التفكك العائلي وانهيار القيم والمبادئ السامية لمصلحة الفساد على أنواعه، علماً أن الدولة لا تعترف رسمياً بهذه المسؤولية ولا تسعى إلى تغيير الأوضاع بالمرة، وإذا فعلت فهي لا تتخذ الإجراء السليم لحل المشاكل وتعتمد الخبث والكذب في نقل المعلومات إلى المواطنين. وهل أنت مدين إذاً للسينما الأوروبية بكل ما تؤمن به في ميدان الفن السابع؟ -تقريباً، وعلى الأقل من الناحية الفنية وفي ما يتعلق بالمضمون، خصوصاً بأسلوب معالجته. وأنا من ناحية ثانية تعلمت تقنيات السينما في الجامعة في لوس أنجليس وليس في أوروبا، وبالتالي أدمج في أفلامي بين التكنولوجيا الأميركية والعقلية الأوروبية في ما يخص الحبكات التي أسردها. ولذا أستحق فعلاً لقب مخرج مستقل. يحدث أنك تظهر كممثل في أفلامك وذلك في لقطات قصيرة، ولكن هل تحصل على عروض خاصة بالتمثيل في أفلام غيرك من المخرجين؟ - نعم ويحدث ذلك في كثير من الأحيان، لكنني أرفض كل هذه العروض من دون أن ألقي النظر على مضمونها، وفي كل مرة أقدم اعتذاري الشديد إلى صاحب الشأن مفسراً له أنني لا أتصرف كذلك لمضايقته شخصياً أو لأنني لا أحب أفلامه، بل لأنني لا أتمتع في الحقيقة بموهبة درامية فذة ولا أستطيع التصرف وفق ما يأمرني به الغير، فأنا الوحيد القادر على إدارة نفسي أمام الكاميرا، وقد تكون هذه الحكاية صعبة الفهم لكنها في النهاية الحقيقة البحتة، لا أكثر ولا أقل.