في بلد يعيش الفراغ الرئاسي الثاني له خلال سبع سنوات، بدت كحدثٍ لافت التظاهرة السينمائية «عوالم متشابهة: أسبوع أفلام الانتخابات» التي أقامتها منظمة «نحو المواطنية» أخيراً في بيروت، بالتعاون مع «جمعية ميتروبوليس» و «الجمعية اللبنانية من أجل انتخابات ديموقراطية». قدّمت الأفلام السبعة المُختارة أنماطاً سينمائية متعددة لحكايات مختلفة، تنوعت أساليبها، وتوزعت أحداثها على رقعة جغرافية واسعة، لتلتقي حول العملية الانتخابية كموضوع جامع لها من خلال أشكال من الطرح وخلاصات، جاعلة من هذا التنوع الجغرافي والبيئي والسينمائي امتيازاً تقدمه السينما لتؤكد فكرة «الديموقراطية». وهذه الفكرة قُدّمت هنا بصفتها المفردة الثمينة التي لا تكتمل كمفهوم وغاية إلا من خلال ممارسة استحقاقها ودفع كامل كلفتها. وهو ما نجحت التظاهرة في تقديمه لتبدو المعالجات السينمائية المتنوعة في مجملها نافذة اتسعت لتطل على مشهد رحب كان بإمكانه أن يكون أرحب لولا الغياب الكامل لأي فيلم سينمائي عربي، أكد القائمون على التظاهرة صعوبة العثور عليه. وهذا ليس بعيداً من الحقيقة، ذلك أن السينما العربية عموماً، في أفلامها الطويلة الروائية والتسجيلية، لم تتخذ من العملية الانتخابية بحد ذاتها موضوعاً أساسياً لها، بل اقتصر توظيفها إما كخلفية للحدث وإما كإطار عام للبناء أو كمشاهد تعبر فيها الشخصيات في محطات السيناريو، لكن لتذهب بعدها نحو مقاصد أخرى. أسئلة الهشاشة العربية يفتح هذا الغياب الباب بالطبع أمام جملة من الأسئلة تتعلق بأسباب هذا العزوف والتقاعس في التصدي لموضوع على هذه الأهمية في بلدان لا تتوقف التجارب السينمائية الجادة فيها عن طرح مواضيع تتقصد كشف هشاشة البنية السياسية في مجتمعاتها، متجنبةً البحث في جوهر تأزمها والمتمثل في غياب فعل الديموقراطية والمواطنة الحقيقية. قد تبدو الإجابة عن الأسباب بدهية من خلال إحالتها إلى المحظورات الرقابية والمحرمات السياسية، لكن استعراضاً سريعاً للأفلام المختارة في التظاهرة، يشير إلى أن هذه المحظورات ليست سببا كافياً، بخاصة بعد الاطلاع على تجارب سينمائية من بلدان أخرى ابتعدت عن تقليدية الطرح واختارت زوايا جديدة للرؤية، متجنبة الوقوع في سردية تؤدي إلى معالجة مترهلة أو مرور سطحي لا يغني السينما ولا الموضوع في شيء. فطرح موضوع الانتخابات لا يقتصر بالضرورة دوماً على تناول رأس الهرم السياسي للبلاد، وما يشكله من حساسية لا يقدر السينمائيون على تحمل نتائجها. فإن أي محاولة لصناعة فيلم عن الانتخابات الرئاسية في بلد عربي ستبدو سهلة وصعبة في آن، فهي سهلة لأنها قد تحمل معها نتائجها المتوقعة مسبقاً، وبالتالي لن تضيف أي جديد لما هو معروف عن الحال السياسية العرجاء للبلاد العربية. وهي أيضاً مغامرة صعبة بسبب المحاذير الرقابية التي تمنع الخوض فيها بشفافية مطلقة. لكن، ماذا عن باقي الهرم السياسي والاجتماعي بعيداً من كرسي القرار الرئاسي؟ فبين فيلم الافتتاح «لا» الذي ترشحت التشيلي عنه لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 2013، وبين فيلم الختام الأميركي «المُرشح»، الحائز أوسكار أفضل سيناريو عام 1973، تم عرض مجموعة من الأفلام التي نجح تنوعها في رسم صورة لمعنى السعي لممارسة الفعل الديموقراطي على طرقات ليست دوماً معبدة. الفيلم الروائي «لا» لمخرجه بابلو لارين اتخذ لنفسه نطاقاً سردياً ذكياً مكّنه من هذا التأرجح الرشيق بين الروائي والتسجيلي، متناولاً بواقعية لا تخلو من طرافة موضوع الاستفتاء الذي وجد الديكتاتور العسكري التشيلي أوغوستو بينوشيه نفسه مجبراً على إجرائه عام 1988 لتمديد حكمه لفترة رئاسية جديدة تمتد لثماني سنوات أخرى. وُضعت البلاد حينذاك أمام استحقاق التصويت ب «نعم» أو ب «لا» لنظام عسكري اتسم بالاستبداد والفساد ودموية في قمع الحريات. يتم تكليف المنتج التلفزيوني الشاب (غايل غارسيا برنال) من جانب أحزاب المعارضة لإنتاج الشريط التلفزيوني لحملة «لا». كيف السبيل إلى تنفيذ فيلم دعائي ممتع، ينافس فيه فيلم حملة «نعم»، ويقنع من خلاله المشاهد بضرورة رفض التمديد لطاغية، لكن متجنباً اعادة انتاج الواقع القاتم على الشاشة. سؤال فيلم الافتتاح هذا سيقابله سؤال آخر من نوع مختلف لفيلم الختام (المُرشح) لمخرجه مايكل ريتشي الحاصل عام 1973 على أوسكار أفضل سيناريو، وفي البطولة روبرت ريدفورد في دور المحامي النزيه، صاحب الأسلوب الصريح في الحديث عن مشاكل البلاد من بطالة وفساد وعنصرية، والذي يجد نفسه فجأة في خضم حملة انتخابية تم زجه فيها كمرشح للكونغرس الأميركي. كيف يمكن رجلاً مثالياً أن ينزل في نهر اللعبة السياسية من دون أن يبتل بالنفاق والتجاوزات، وكيف يضمن عدم انجرافه مع مياه السيل نحو نهايات تبعده عن ضفاف البدايات؟ سؤال سيحمله مشهد النهاية على لسان بطله حين نراه يسحب مدير حملته الانتخابية بعيداً من ضجيج الجموع الفرحة لفوزه في الانتخابات، ليسأله السؤال الذي صنع شهرة الفيلم آنذاك وفرادته: «وماذا بعد الآن؟». مشهد كانت الكاميرا قد أسست له من خلال إيقاع يعبّر عن حمى اللعبة السياسية ومنزلقاتها الخطرة، وليضع الفيلم هذه النهاية المفتوحة على الحقيقة: هل يعي المرشح الانتخابي حقاً هدف فوزه، وهل يشعر بفداحة فراغه الداخلي الذي ساهم التلفزيون كثيراً منذ الستينات في أميركا بصنعه بعد أن سيطر على الساحة الانتخابية بامتياز؟ أما الفيلم الروائي الإيراني «التصويت السري» الحاصل على خمس جوائز في مهرجان فينيسيا عام 2001، فقد اختار لنفسه معالجة مجردة لحدث انتخابي مفترض في مكان وزمان معلقين في إيران، في مقاربة فطنة لا تنال منها الرقابة وتزيد إلى رصيد السينما الإيرانية فيلماً آخر يجيد الدوران حول المحرمات الرقابية من دون الوقوع فيها. قدم الفيلم لمخرجه باباك بايامي حكاية ركزت على عبثية في المواقف من خلال سرد وقائع يوم انتخابي مفترض في منطقة صحراوية نائية تصلها امراة شابة في قارب بحري صغير يمر على الشاطئ في أول النهار مع وعد بالعودة لاصطحابها في آخره. سنعلم أن المرأة هي مندوبة الانتخابات المكلفة حمل صندوق اقتراع سري فارغ تم إسقاطه من طائرة عبرت فضاء المكان في مشهد البداية. تمضي الفتاة، المليئة بالحماسة لتطبيق إجراءات ديموقراطية نزيهة، نهارها بصحبة حارس من خفر السواحل بقي عاجزاً عن فهم سبب هذه الحماسة لإتمام مهمة بدت صعبة في منطقة نائية كشفت عبثية وظيفته المتمثلة بالتناوب على حمل السلاح في انتظار مهربين لا يأتون. يغلق بايامي فيلمه على مشهد يتمم فيه سوريالية البداية، حيث ستطل من خلف تلة رملية الطائرة التي لا بد من أنها تلك التي عبرت في المشهد الأول، ولنرى الطائرة تقلع بالمرأة في نهاية هذا اليوم الانتخابي الغريب الذي استعرضت فيه الكاميرا نماذج من البشر وأنماطاً من العيش غارقة في فقرها وعزلتها وتخلفها. الفيلم التسجيلي الأميركي «نهاية الحزب» لمخرجيه ريبيكا شيكلين، ودونوفون ليتش جونيور، اختار الممثل فيليب سايمور هوفمان ليجول خلال الأشهر الستة الأخيرة لعام 2000 على المؤتمرات الانتخابية للحزبين الديموقراطي والجمهوري التي تتوج فترة الانتخابات التمهيدية لكل حزب من أجل تسمية مرشح كل منهما للانتخابات العامة. إنها جولة رصد واستطلاع للرأي لمواقف المشاهير المعنيين بالشأن العام، ورؤساء الأحزاب والسياسيين، وأيضا جولة إضاءة على أناس يمارسون حقهم في الشارع في الاحتجاج والاعتصام على السياسات الفاشلة للبلاد. سيتكشف خلال هذه الجولة نوع الخطاب السياسي الأميركي الذي يتحايل لإخفاء الأهم من القضايا المستعصية، وليعري في النهاية وهم الاختلاف بين الحزبين الحاكمين في أميركا داخل معادلة السلطة والنفوذ والمصالح. وليكون التباس الترجمة الذي حمله عنوان الفيلم بين «نهاية الحفلة» أو «نهاية الحزب» هو انعكاس للخلاصة المتمثلة في نهاية فكرة الحزب السياسي حين يكون الحزبان الحاكمان على هذا المقدار من التشابه في السوء والادعاء والعجز. أما الفيلم الفرنسي «القضية والممارسة» 2012 لدورين بران وجوليان مونيه، فقد قدم تجسيداً لسينما الواقع من خلال شريط تسجيلي صادم في تعريته لآلية انتخاب فاسدة يعلم الجميع السياسة الديماغوجية المخيفة المتبعة في استغلالها الفقراء الذين يقدسون رجل السياسة كنموذج للنجاح ويقفون عاجزين أمام نفوذه. إنها قصة البلياردير الثري رئيس البلدية سيرج داسو والتحقيق الذي قام به صناع الفيلم على مدى ثلاث سنوات قبل انتخابات عام 2009 لكشف تطبيق نافر للديموقراطية. فرئيس البلدية على رغم القرار القضائي بعدم قانونية إعادة ترشيحه، سيفوز في الانتخابات لكن من خلال دعمه لمرشح آخر مكانه. وإلى غانا في غرب أفريقيا، سيذهب فيلم «انتخابات أفريقية» إنتاج عام 2011 لمخرجه جاريث. ج. ميرز الذي قدم فيه مخرجه فيلماً بدا أشبه برسالة حب شخصية لبلده، جاعلاً من الانتخابات الرئاسية لعام 2008 مشهداً تجد الكثير من بلدان العالم الثالث صورتها فيه في مسيرتها المعقدة نحو الديموقراطية، وهي تصارع من أجل كسب شرعية لنفسها أمام ديموقراطيات العالم الأول. في الانتظار ويبقى أن ننتظر لنرى ما هي الأسئلة التي ستطرحها السينما العربية في الأعوام المقبلة. ماذا بعد دخول العالم العربي مرحلة سياسية جديدة شهدت أفول «الأنظمة والقيادات التاريخية»، وهل ستساهم السينما في توثيق الإمساك بحلم المواطنة؟ وهل ستتحول الانتخابات التي أجريت في مصر وتونس وليبيا وسورية والعراق، بسبب إشكاليات نتائجها، أو أية انتخابات على مستويات أخرى، إلى ذريعة تسوق من خلالها السينما فكرة تحقير الشعوب وعدم جاهزيتها للديموقراطية، أم إننا سنرى سينما جادة في بحثها لتقديم فهمٍ واعٍ يوسع حدود الجرأة ليجد تفسيراً للواقع من دون التنازل عن الديموقراطية كخيار لا بديل له؟