سيفتقد الأتراك ذاك الوجه البشوش الذي كان يطلّ عليهم كل مساء، لتقديم نشرة الأخبار في قناة «دي» الخاصة، ويعلّق على كل خبر في النشرة بطريقته التي تجمع الحيوية والمرح، مع خبرة طويلة تتيح له الحكم على الأخبار بنظرة الحكيم المنتقد أو الناصح المرشد. فقدت تركيا عميد صحافييها، محمد علي بيراند، الذي توفي في مستشفى بعدما استسلم قلبه لجراحة في المرارة، عن 71 سنة. نحو نصف قرن من العمل الصحافي جعلت من اسم بيراند علامة مميزة في عالم الصحافة التركية، إذ فتح نافذة الأخبار الخارجية والصحافة الديبلوماسية في تركيا، وعرّف شعبها الذي كان يعيش في عزلة تامة، على أخبار العالم والجوار، من خلال برنامجه الشهير «اليوم الثاني والثلاثون» الذي كان الأتراك ينتظرونه بشوق شهرياً على القناة الرسمية «تي آر تي» في ثمانينات القرن العشرين. ومن خلال لقاءات لا تُحصى مع رؤساء وقادة سياسيين، ساهم بيراند في تغيير فكرة الرأي العام التركي عن العالم وجواره، كما كان بحقّ أستاذ الصحافة الديبلوماسية، من خلال لقاءات سبقٍ أجراها مع زعماء مثل الرؤساء الأميركي بيل كلينتون والفرنسي فرنسوا ميتران والعراقي صدام حسين، ومن خلال عشرات الصحافيين الذين تتلمذوا على يديه وأصبحوا الآن نجوماً في عالم الصحافة. بدأ بيراند مسيرته المهنية في سنّ مبكرة في صحيفة «ميللييت» في مطلع ستينات القرن العشرين، وعمل مراسلاً في بروكسيل ومدن أوروبية لنحو عشر سنوات، استطاع خلالها أن يفتح قنوات اتصال مهمة مع العالم الخارجي. واجه بيراند اياماً صعبة خلال تسعينات القرن العشرين، بسبب كتاباته الرافضة لوصاية العسكر والمطالِبة بتسوية القضية الكردية، وإجرائه لقاءً مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان. كما مُنع كتابه الأشهر «أورك سيدي الجنرال» الذي فضح فيه العالم الداخلي للمؤسسة العسكرية الانقلابية، ونظرتها إلى السياسة والشعب. وانتقم منه الجيش، إذ ضغط لطرده من عمله عام 1997، خلال الانقلاب السياسي على حكومة الإسلامي نجم الدين اربكان، على رغم أن بيراند كان من أشد المنتقدين لتيار الإسلام السياسي. لكن الجيش قرر إبعاده بسبب مقالاته الرافضة لتدخله في السياسة. بعد ذلك شارك بيراند في تأسيس قناة «سي أن أن ترك»، وعمل مديراً للأخبار ومقدماً للنشرة المسائية في قناة «دي»، كما تابع كتاباته في صحيفة «بوسطه»، وأعدّ أهم وثائقي في تركيا عن الانقلابات العسكرية. رثا بيراند بعد وفاته كل الزعماء السياسيين في تركيا، ووصفه زملاؤه بأنه «مقتحم الأبواب المغلقة» و «الصحافي الذي لا يعرف الممنوع». لكن أهم ما كان يميّز بيراند هو تفاؤله وحبه للحياة، وفضله في تعريف الأتراك بوجود عالم خارجي فاعل على حدود بلادهم، إضافة إلى رفعه الغطاء عن كثير من مستور المسائل التركية الشائكة، وأهمها وصاية العسكر والقضية الكردية.