اختار الرئيس الأميركي باراك أوباما تركيا لتكون محطته الأولى على الضفة الأخرى من الأطلسي، ومنها أطلق رسائل التغيير مخاطباً العالم الإسلامي والشرق الأوسط وإسرائيل وأوروبا. قبل أن يكمل أول مئة يوم في الحكم اظهر أنه جاد في تغيير صورة أميركا وسياساتها وأنه يختلف عن سلفه فعلاً وليس قولاً. أعلن ان بلاده ليست في حرب مع الإسلام، وأعلن أول إشارات الخلاف مع إسرائيل، ومد يد الحوار الى إيران، وأكد استمرار ودعم جهود الوساطة التركية في عملية السلام مركزاً على دورها المحوري في استقرار المنطقة، أطلق رصاصة الرحمة على مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي ولد مشلولاً، وأجل فتح ملف جراح الأرمن التاريخي لإعطاء فرصة للحوار الأرمني - التركي. باختصار وضع الخطوط العريضة لسياساته المقبلة في المنطقة، أطلق سهمه ورحل تاركاً الجميع يفكر ويحلل ويعيد حساباته من جديد. انقلاب في العلاقة مع تركيا لم يتوقع أكثر المسؤولين تفاؤلاً في حكومة حزب العدالة والتنمية التركية أن تحظى تركيا بكل هذا الاهتمام والخصوصية من قبل الرئيس الأميركي الجديد باراك حسين أوباما بعد كل ما شاب العلاقات بين أنقرةوواشنطن خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش، وبعد كل ما روجه البعض من أن أميركا دولة مؤسسات لا يمكنها ان تغير سياساتها بسهولة وأن التغيير الذي يتحدث عنه أوباما انما هو تغيير في الأسلوب لا يطاول الإستراتيجيا ولا السياسات. ولعل ما جاء به أوباما الى تركيا يحمل رسالة قوية لهؤلاء الذين لا يريدون لأميركا ان تخرج من محور شرهم أو ان تتغير. فالبرلمان الذي وجه صفعة لأميركا بوش حين رفض التعاون معها في حربها لاحتلال العراق كان أول مكان يزوره أوباما ويعلن فيه دعمه لتركيا قوية فاعلة في المنطقة، ومن هناك أكد دعمه أيضاً لدور الوسيط الذي تلعبه تركيا بين إسرائيل وسورية، رغم ترويج بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن دور تركيا في الوساطة قد انتهى، ومن أنقرة أيضاً وجه أوباما أول رسالة للحكومة الإسرائيلية الجديدة بضرورة الالتزام بحل الدولتين وأنه سيتابع تقدم عملية السلام على هذا الخط، وذلك على رغم تصريحات المسؤولين الإسرائيليين في حكومة بنيامين نتانياهو التي تشير الى وفاة انابوليس وحل الدولتين. كما اختار أوباما تركيا كجسر الى العالم الإسلامي ليمد يد المصالحة اليه ويقول ان أميركا ليست في حرب مع الإسلام وأن علاقتها مع المسلمين لا يمكن ان تكون محصورة في محاربة الإرهاب وقال انه من عائلة أميركية فيها مسلمون. كما أنقذ أوباما تركيا من تهمة الدولة التي تمثل الإسلام المعتدل في الشرق الإسلامي، وهي جزء من اختراع بوش المسمى بالشرق الأوسط الكبير الذي تسبب في الإزعاج لتركيا وللدول الإسلامية معاً، اذ انه استفز القوى العلمانية التي اتهمت حكومة أردوغان بعقد صفقة مع إدارة بوش من أجل القضاء على النظام العلماني في تركيا وتحويلها الى دولة إسلامية تمثل ما يسمى بالإسلام المعتدل وتكون نموذجاً يحتذى من بقية النظم والدول الإسلامية، ما يعني سلخ تركيا عن العالم الغربي والزج بها في أحضان العالم الإسلامي لتتولى شؤونه وقضاياه، وهو اتهام باطل غير صحيح وقد ذهب بوش وذهب الشرق الأوسط الكبير أو الموسع معه. وبدا أوباما دقيقاً وحذراً حين قال أن تركيا دولة ذات أكثرية مسلمة لكنها ليست دولة إسلامية، وكذلك أميركا دولة ذات غالبية مسيحية لكن يعيش فيها أيضاً مسلمون ويهود وهندوس وهي ليست دولة مسيحية، والحوار بين تركيا وأميركا يمكن ان يكون نموذجاً لحوار الشرق والغرب، حوار سياسي بعيد عن قضايا الدين، فالخلاف بين الغرب والشرق الإسلامي ليس خلافاً دينياً بل خلاف سياسي. وبذلك حاول أوباما ان يصحح علاقته مع العالم الإسلامي من خلال نفي تهمة الإرهاب عنه، وهو الذي سعى لتفادي استخدام تعبير الإرهاب واستبدله بتعبير كوارث من صنع البشر. كما لفت أوباما الانتباه الى ديموقراطية تركيا ونظامها العلماني مشيراً الى انهما ساعداها على الحوار مع الغرب بلغة المصالح. وبقدر ما يبدو هذا الاهتمام والدعم الأميركي لتركيا انقلاباً في العلاقات بينهما باتجاه فتح صفحة جديدة من العلاقات مبنية على التعاون والتفاهم، فإن أوباما في الواقع يعود الى ما بدأه الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الذي أعاد اكتشاف تركيا وأدرك أهميتها بالنسبة الى السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. تغير الظروف وعوامل الاستعداد للدور الجديد أوباما يكمل اليوم ما بدأه كلينتون، خصوصاً أن تركيا التي كانت غير مستعدة وغير مهيأة لهذا الدور في التسعينات من القرن الماضي، تبدو اليوم على أهبة الاستعداد وذلك لنقاط عدة أو ظروف داخلية وخارجية تغيرت من النقيض الى النقيض خلال العشرين عاماً الماضية. أولاً كان الأميركيون يؤمنون بأن العرب يكرهون تركيا ولا يمكنهم ان يسمحوا أو يقبلوا بأي دور لها في قضاياهم، وذلك بسبب الإرث التاريخي المشوه عن حقبه الحكم العثماني، والاهم السياسة السورية حينها التي ناصبت تركيا العداء بسبب ملف المياه وحزب العمال الكردستاني ولواء الاسكندرون، وسعت سورية الى اتخاذ الجامعة العربية موقفاً مشابهاً من تركيا، اما اليوم ومع تحسن العلاقات التركية السورية والدور التركي الإيجابي في العراق ة قضية السلام، ومع تعاظم المخاوف من الملف النووي الإيراني وانهيار العراق كقوة عسكرية عربية تقف في وجه إيران، اصبح الدور التركي مرحباً به عربياً، وبنت الجامعة العربية علاقات مميزة مع تركيا. ثانياً، كانت للدول الإسلامية تحفظات وعلامات استفهام على نظام تركيا العلماني، لكن اليوم زالت هذه المخاوف خصوصاً بعد أن شاهد الجميع قصة وصول حزب العدالة والتنمية المحافظ الى السلطة وبعد انتخاب عبدالله غُل رئيساً للجمهورية، إذ لم يحل النظام العلماني الذي يمنع المحجبات من دخول الجامعة، أن يحول دون انتخاب رئيس ورئيس للوزراء زوجتيهما محجبتين. ثالثاً، كانت السياسة الداخلية في تركيا غير مستقرة ولا يمكن الوثوق بها، ففي التسعينات غلب حكم الحكومات الائتلافية والانتخابات المبكرة المتعاقبة والأزمات السياسية، لكن اليوم هناك في الحكم حكومة مستقرة منذ اكثر من ستة أعوام تسيطر على الأكثرية في البرلمان وتستطيع إصدار القوانين والإصلاحات التي تريد، ويمكن العمل معها مع توقع استمرارها في الحكم لسنوات مقبلة. رابعاً، كان الاقتصاد التركي في حال يرثى لها وكان من المستحيل ان يمول هذا الاقتصاد المترنح اي دور فاعل لتركيا خارج حدودها، أما اليوم فإن تركيا سادس اكبر اقتصاد في أوروبا التي ينتمي الى عضوية اتحادها 25 دولة وإحدى الدول العشرين الأقوى اقتصادياً في العالم، وتمول الجمعيات الأهلية التركية الكثير من الأعمال الخيرية والإنسانية والاجتماعية في العراق وأفغانستان وفلسطين والبوسنة وغيرها، ناهيك عن المساعدات المالية التي تقدمها الحكومة التركية في مؤتمرات المانحين. خامساً، كان الجيش مسيطراً بوضوح ودقة على مجريات السياسة الداخلية والخارجية، وأدى تدخله الى إسقاط حكومة نجم الدين اربكان عام 1997، وسعى الجيش لفرض سياساته القومية على القضية القبرصية والملف الكردي داخلياً وفي شمال العراق وفي ما يتعلق بالقوقاز وآسيا الوسطى، أما اليوم فيبدو أن الإصلاحات الديموقراطية التي طبقتها تركيا خلال مسيرة أعوامها العشرة مع الاتحاد الأوروبي استطاعت أن تروض المؤسسة العسكرية الى درجة كبيرة، حتى اضطر بعض أفرادها الى الدخول تحت الأرض والعمل في السر على طريقة عصابات المافيا المسلحة، وهو ما تم الكشف عنه اخيراً تحت مسمى عصابة «ارغاناكون»، وللمرة الأولى بدأت تركيا تحاسب جنرالاتها في محاكم مدنية، ويساهم قائد الجيش في الدفع لحل القضية الكردية، وتفرض الحكومة خططها في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. وأخيراً فإن العلاقات التركية مع إسرائيل في التسعينات جعلت العالمين العربي والإسلامي يحذران من العلاقة مع تركيا، لكن إعادة صوغ علاقة تركيا مع إسرائيل وتسخير هذه العلاقة من أجل عملية السلام، والقدرة على انتقاد إسرائيل بقوة عند شن إسرائيل هجمات وحشية ضد العرب، كل هذه نقاط مهمة تؤكد استعداد تركيا اليوم لتلعب دور حجر زاوية الاستقرار في المنطقة من خلال نفوذها السياسي المتمادي في المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى حتى البلقان مروراً بالشرق الأوسط، وهو دور لا يتعارض مع المصالح الأميركية بل يوازيها في كثير من الامور. أفغانستان والناتو وتركيا كان الرئيس أوباما اكثر قيادات «الناتو» تفهماً للموقف التركي المعترض على ترشيح رئيس وزراء الدنمارك اندرس فوخ راسموسان لمنصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، لكنه لم يرد أن يقف أمام رغبة أوروبية جامحة وشبه موحدة لاختيار أمين عام يمثل صوت الاتحاد الأوروبي داخل «الناتو» وهو – اي أوباما – يستعد لقمة أميركية أوروبية تصالحية من أجل إغلاق ملف التوتر الذي أشعله الرئيس بوش وإدارته مع أوروبا. وقد بدا وكأن الحلفاء الأوروبيين نصبوا فخاً سياسياً لتركيا من أجل التغلب على اعتراضها المعروف سلفاً على مرشحهم. فالموقف التركي كان مبنياً على ان مهمة «الناتو» الأهم مستقبلاً ستكون في أفغانستان ومع العالم الإسلامي، لذا فإن راسموسان الذي لازم اسمه أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) قبل أربعة اعوام، لن يكون بطبيعة الحال الرجل المناسب لهذا الدور، إضافة الى تحفظات تركيا على موقف راسموسان الرافض لإغلاق قناة «روج تي في» الكردية التي تبث من الدنمارك والتابعة لحزب العمال الكردستاني المحظور أوروبياً. وللتغلب على تهديدات تركيا باستخدام الفيتو ضد اسم راسموسان، سعت المانيا وفرنسا وحلفاؤهما في الاتحاد الأوروبي الى الضغط سياسياً بقوة على تركيا واستغلال قمة «الناتو» الستين التي عقدت في مدينة ستراسبورغ الفرنسية وزيارة أوباما المرتقبة لتركيا، وعجلوا في طرح اسم راسموسن خليفة لياب دي هوب شكيفر، مع العلم أن انتخاب سكرتير عام لم يكن قد وضع على اجندة القمة الستين، وهو ما اكده أوباما الذي قال انه لا يزال هناك متسع من الوقت لانتخاب السكرتير العام الذي يبدأ عمله في آب (أغسطس) المقبل، لكن الضغط الأوروبي لحسم الموضوع مبكراً وفي هذه القمة، كان يهدف لإحراج تركيا وتحميلها مسؤولية تفجير ازمة خلال القمة الأولى التي يحضرها أوباما، وإلقاء ظلال على زيارته التي ستتبع الى تركيا، وأعلنت المانيا ان تركيا وحدها هي التي تعارض ترشيح راسموسان، كما صرح أولى ريهن مسؤول توسيع الاتحاد الأوروبي أن رفض تركيا لراسموسان سيؤثر سلباً على مسيرتها مع الاتحاد الأوروبي. ووسط كل تلك الضغوط تدخل أوباما من أجل حل وسط، فوعد تركيا بمنصب نائب الأمين العام والمفوض المدني عن ملف أفغانستان، وذلك من أجل موازنة دور راسموسان قدر الإمكان في ما يتعلق بالملف الأفغاني، مع التأكيد على ان راسموسان سيوضح موقفه من أزمة الرسوم الكاريكاتورية خلال قمة حوار الحضارات، وهو ما عرضه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على انه تقديم لاعتذار من العالم الإسلامي، وهنا بالغ أردوغان في وصف ما حصلت عليه تركيا لقاء تراجعها عن استخدام الفيتو. وذلك مع تأكيد جميع المسؤولين الأتراك ان «الناتو» قد يدفع ثمن خياره. في المقابل بقيت تركيا على موقفها الرافض لإرسال قوات مقاتله الى أفغانستان، وذلك على رغم طلب أوباما ذلك من حلفائه خلال قمة، إذ كانت تركيا قد استعدت لهذا الطلب مسبقاً من خلال عقد القمة الثالثة التي تجمع رئيسي باكستانوأفغانستان في تركيا، وخرجت القمة ببيان يشدد على حاجة أفغانستان الى دعم اقتصادي واجتماعي اكثر من حاجتها للدعم العسكري، والتأكيد على ان أصحاب الأرض هم الأخبر والأدرى بوضع خطط واستراتيجيات من أجل الاستقرار في بلادهم وأن على الأجانب – والمقصود هنا «الناتو» – تقديم الدعم لتلك الرؤية المحلية وليس العمل على وضع رؤية بديلة. تركيا ومثلث أرمينيا العراق إسرائيل لا شك في أن زيارة أوباما لتركيا التي طالبت بالحوار مع سورية و «حماس» يعني تفهماً أكبر وربما دعماً للسياسات التركية في الشرق الأوسط، وهي بحد ذاتها وكل ما جاء خلالها من رسائل دعم وإطراء ثمرة إصرار أنقرة على سياساتها في المنطقة على رغم انتقادات وضغوط إدارة الرئيس جورج بوش، وعلى العكس من إدارة بوش أيضاً بدا أوباما واضحاً في أهدافه ورسائله، ونشاط أوباما هذا قد يستدعي تحرك تركيا في شكل انشط في المنطقة مستقبلاً لأن الفيتو الأميركي على تحركاتها ولقاءاتها قد رفع، في المقابل فإن على تركيا ان تحسب خطواتها جيداً حتى لا تخسر هذا الدعم الأميركي بسبب مغامرات بسيطة أو حسابات ضيقه. وهنا تبرز أهمية الملف الأرمني، فأوباما اثلج صدر تركيا عندما أكد في المؤتمر الصحافي أنه لن ينفذ وعده هذا العام لناخبيه الأرمن ولن يصف مذابح الأرمن في خطاب الرئيس السنوي في 24 نيسان (ابريل) بجريمة تطهير عرقي، وذلك من أجل إفساح المجال لحوار المصالحة الأرمني - التركي الذي بدأ بزيارة الرئيس عبدالله غل لأرمينيا في تشرين الأول (اكتوبر) العام الماضي من أجل حضور مباراة في كرة القدم بين البلدين بناء على دعوة من الرئيس الأرميني جيرك سيركسيان والذي يتجه الى فتح الحدود البرية بين البلدين. لكن أوباما كان حريصاً في أنقرة على عدم خداع ناخبه الأرمني حين قال انه عند وعده وأن قناعته لم تتغير في شأن تلك القضية التاريخية لكن الأهم هو المصالحة بين تركيا وأرمينيا، فزاد من ضغطه على مضيفيه من أجل فتح الحدود وإحراز تقدم في المفاوضات الجارية. والمصلحة الاميركية هنا ليست انتخابية فقط وانما تريد واشنطن ان تكون لأنقرة علاقات جيدة مع جميع دول القوقاز الأعلى أو الشمالي من أجل سحب أرمينيا من تحت الوصاية الروسية، لكن أنقرة تنظر الى الموضوع بمنظورين قومي وإقليمي، فقومياً ترفض أرمينيا حتى الآن الاعتراف بالحدود الشرقية لتركيا وتعتبر القسم الشرقي من تركيا جزءاً من أرمينيا ولو في أدبياتها السياسية، كما تحتل أرمينيا أراضي في اذربيجان الحليف الأقوى والأقرب لتركيا في تلك المنطقة وكانت تركيا وعدت بعدم تطبيق العلاقات الا بعد إنهاء الاحتلال الأرميني لإقليم ناغورني قره باغ الاذري الذي تسكنه أكثرية أرمينية. ولذا تفضل تركيا تناول ملف تطبيع العلاقات مع أرمينيا بالتوازي مع حل مشكلة احتلال قره باغ وترسيم الحدود وإيجاد مخرج لملف المذابح الأرمينية في سلة واحدة، وأن بدا الموقف التركي غير مفهوم في ما يخص طلب أوباما إعادة فتح مدرسة تأهيل الرهبان المسيحية في جزيرة هيبلي اضا التركية، وهو موقف لا يليق بتركيا لأنه يعيد الى الأذهان صورة تسلط وتحكم بعض المسؤولين والسياسيين الأتراك القديمة المكتسية بالتطرف القومي الذي يصل أحياناً حد الفاشية في التعامل مع القوميات الأخرى وأصحاب الديانات الأخرى من غير المسلمين، وهي صورة سعت تركيا لتغييرها بالعمل الدؤوب ونجحت الى حد بعيد خلال العقد الأخير. العراق أيضاً من الملفات الشائكة التي سعت تركيا لترتيب أوراقه قبيل زيارة أوباما من خلال زيارة الرئيس عبدالله غل الى بغداد في آذار (مارس) الماضي والتي شكلت قمة المسيرة الديبلوماسية التي بدأتها تركيا قبل عامين من أجل تغيير نظرتها الى العراق وتطبيع العلاقات مع اكراده وحل الخلافات الأمنية. فبزيارة غل أثبتت أنقرة انها غيرت نظرتها القديمة الى العراق التي كانت لا تتجاوز كركوك جنوباً وتركز على حزب العمال الكردستاني ومستقبل الإقليم الكردي، فالسياسة التركية اليوم ترى عراقاً ممتداً من البصرة الى دهوك بعربه وأكراده وتركمانه ومختلف طوائفه، والتعاون الاقتصادي لاستخراج النفط والغاز وتوصيله الى أوروبا والأسواق العالمية يغلب اليوم على مشاكل الأمن بسبب حزب العمال الكردستاني الذي يبدو المسؤولون الأتراك اليوم متفائلين باحتمال تركه للسلاح من خلال وساطة كردية - عراقية، وفي ما يتعلق بمستقبل إقليم كردستان العراق لمح الرئيس غل الى اعتراف تركيا بالإقليم من خلال حيلة ديبلوماسية جعلت الصحافيين الأتراك يناقشون اذا ما كان نطق بكلمة كردستان ام لا، لكن تلك الحيلة الديبلوماسية أشارت بوضوح الى زوال القلق التركي من فيديرالية كردية في شمال العراق، وهو ما يعني ان تركيا ستستطيع التحرك في شكل أقوى واكبر في العراق خلال مرحلة الانسحاب الأميركي وهو ما عبر عنه غل خلال الزيارة عندما اكد بأن تركيا ستقف الى جوار العراق الجديد وأنه متفائل بمستقبله، بل ان غل استأمن العراق الجديد على أمن زوجته التي اصطحبها معه حين قضيا يومين في بغداد لتكون خير النساء غل أول سيدة أولى تزور العراق. اما في ما يخص العلاقات الإسرائيلية - التركية فإن زيارة أوباما الى أنقرة قبل إسرائيل، وتأييده الوساطة التركية في عملية السلام لا بد أنه سيزيد من الضغوط على تل ابيب وحكومتها الجديدة، ويبدو من زيارة أوباما أهمية وصحة التصرف التركي في دافوس حين رفع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الحصانة عن المس بإسرائيل اتهاماً أو محاسبة، وذلك حين وجه كلاماً قاسياً للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز حين حاول تبرير عدوانه الوحشي على غزة. فهذا الموقف التركي الذي اعتبره بعض العرب - الذين فقدوا القدرة على مجاراة التغييرات السياسية في منطقتهم ويفضلون العيش في عالم جامد لا يتغير - مسرحية مدبره، كان أول مبادرة لرفع الحصانة عن الدولة العبرية التي بدت لعقود في منأى عن المحاسبة أو الانتقاد، وشجعت حادثة دافوس المؤسسات والمجتمعات على المطالبة بمحاكمة إسرائيل بتهمة جرائم حرب، وجاءت زيارة أوباما الى أنقرة ورسائله منها الى إسرائيل لتقرأ وكأنها رسالة دعم مبطن للموقف التركي وأن الأولوية قد تتغير مستقبلاً لدى واشنطن من تحقيق رغبات إسرائيل مهما بلغت الى تحقيق السلام. لا تدري المنطقة ما يخبئه الرئيس الأميركي باراك أوباما من مفاجآت لها، وإذا كان هدف أوباما من زيارة تركيا هو الاستفادة من ارتفاع اسهمها لدى العالمين العربي والإسلامي من أجل التأكيد على ان أميركا تغيرت، فيمكن القول أنه نجح في اختياره وعلى الأقل نجح في اسر قلوب 80 مليون تركي، وأن كانت رسالته الأقوى بأن أميركا تغيرت وعلى العالم ان يتغير أيضاً، فإن الثابت الوحيد هو أن السياسات التركية في المنطقة التي بدأت قبل خمسة اعوام ستستمر في الثبات نفسه وربما في شكل انشط وأقوى بعد هذا الدعم الأميركي الذي يعدّ سابقة.