المزج بين الأصالة والمعاصرة، وإقحام الماضي البعيد شاء الجميع أو أبى في الحاضر المريع راق لبعضهم أو لم يرق بات سمة العصر. فبينما كثيرون في مصر يشعرون بأن بعضاً من المشاهد التي يستيقظون عليها في الشارع أو ينامون على وقع أحاديثها هي أشبه بإعادة إحياء لعصور تاريخية سحيقة أو عودة إجبارية إلى أساطير وخرافات العصور الوسطى، فوجئوا بخبر يطل عبر صفحات الحوادث بدا وكأنه قفز من عصر الفتوحات العربية إلى غرف جولسهم رأساً. جلس بعضهم مسمراً، وفتح آخرون أفواههم، وانفجر آخرون في موجة ضحك هسيتري، وضرب فريق رابع كفاً بكف ولسان حال الجميع باك على ما آلت إليه الأمور في العام ال13 من الألفية الثالثة. نزل الخبر كالصاعقة. بدا للوهلة الأولى أنها قضية جاسوسية من العيار الثقيل، في حين ألقت التفاصيل الضوء على إمكان كونها خطة جهنمية مدبرة للنيل من أمن الوطن واستقراره. لكن المؤكد أن الحدث مقدر له أن يتخذ أبعاداً محلية وعالمية وأخرى عنكبوتية. تحولت مديرية أمن القليوبية إلى خلية نحل، وقال آخرون إنها كانت «غيٍّة حمام» (مكان تربية الحمام)، لكن المهم هو أن «مواطنين شرفاء» عثروا على رسالة قيل إنها خطيرة و «ميكروفيلم» قيل إنه مثير في وسيلة نقل بريدية. ورغم أن التاريخ يشير إلى أن البريد العربي قديماً اعتمد على هيئات منظمة وكتائب منسقة وقطعان منمقة من الخيول والبغال والجمال وغيرها لنقل الرسائل من مركز الخلافة الإسلامية وإليه، فإن «جسم الجريمة» اكتشف معلقاً في أرجل حمامة! لم يكن هناك بد من أن يسلم المواطنون «جسم الجريمة» إلى قوات الأمن التي قامت بدورها الوطني المتوقع، وتحفظت على الحمامة. ولم يكتف الأمن بذلك، بل طالب النيابة العامة بإجراء تحرياتها في شأن الواقعة. ولأن الواقعة تنضم إلى سلسلة طويلة من الوقائع المضحكة المبكية في آن، والتي شاء القدر أن يندرج جميعها تحت بند الأفلام التاريخية التي عالجت حياة العرب في البادية ومعيشة المسلمين الأوائل، خرجت ردود الفعل الأولى على الحمامة بصبغة تاريخية. وبما أن كثيرين مازالوا يتفكهون على فرحة الداعية المثير للجدل صفوت حجازي في أيلول (سبتمبر) الماضي حين شاهد مذيعة محجبة تقرأ نشرة الأخبار في التلفزيون الرسمي فهلل معلناً «دخول الإسلام مصر»، ربط بعضهم بين الحمامة المتحفظ عليها وبشرى دخول الإسلام مصر، مؤكداً أن ظهور الحمامة في سماء مصر إنما هو إعادة تأكيد لتلك البشرى. ومن بشرى إلى ضحكة، فأصحاب الميول الثورية أكدوا أن «حركة «زاجلون» تحاصر الآن مقر مديرية الأمن وتطالب بالإفراج عن الحمامة، في حين أشار زملاء لهم إلى أن ائتلاف «حمامة يامصر» دعا الجمعة المقبلة إلى الاعتصام في التحرير تحت شعار «مصر مش غية». وتظل الغاية مختلفة من مجموعة إلى أخرى في مصر، ففي وقت أكدت الحركات الثورية والجماعات الليبرالية أن الحمامة اعترفت بأنها تلقت تمويلاً من جهات داخلية وخارجية وأن المعارض البارز محمد البرادعي خدعها، لكن تحت ضغط التعذيب ونتف الريش، خرج رموز الإسلام السياسي يدافعون عنها. فمنهم من أكد: «سنحمي الحمامة بالدم من هجوم العلمانيين»، ومنهم من أعاد التهمة إلى ملقيها «بل أنتم الزاجلون»، ومنهم من طالب ب «عودة الحمام الزاجل المقيم في الخارج إلى مصر واسترداد غيّاته التي أممتها الدولة». وأخذت تنظيمات شبابية تنظم صفوفها لمواجهة الخطر الداهم الذي يحيق بالحمامة، فأعلنت جماعة «لازم زاجل» محاصرتها مقر المديرية حيث الحمامة المحتجزة وسط هتاف «زغاليل أحرار هنكمل المشوار» (الزغلول هو الحمام الصغير)، وهو ما ردت عليه «حركة حمام 6 هنطير» بهتافات معادية متهمة «لازم زاجل» بركوب الموجة الثورية مجدداً. وحفاظاً على هيبة الدولة، وتأكيداً لسيادة القانون، لم يغب الشق القانوني عن القضية، إذ تناقلت وكالات الأنباء أن الضابط الذي ألقى القبض على الحمامة حصل على ترقية «وحتة من الورك»، في حين قررت النيابة حشو الحمامة أربعة أيام وحبسها على ذمة التحمير. وبعد ليلة حافلة بآلاف التكهنات والدعابات والإسقاطات التي دقت بعنف على أوتار الالتباس السياسي والاشتباك الإسلامي - الليبرالي المتأزم، جاء الخبر اليقين الذي أفسد المتعة. فلم يكن حرز الميكروفيلم الذي تم التحفظ عليه وإرساله إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون لفك شفرته سوى خاتم حديدي يضعه أصحاب الحمام في أحد الأرجل مع لفافة ورقية عليها رقم هاتف صاحبها في حال ضلت الطريق أو تم القبض عليها، وهو ما كان يفعله المسلمون الأوائل.