بالغ الكثير من المحللين الاقتصاديين الفرنسيين في تفاؤلهم بحدوث قفزة استثنائية في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجزائروفرنسا، بعد زيارة الرئيس فرنسوا هولاند لهذا البلد. وسبق ذلك بأكثر من شهرين أحاديث وتأكيدات حول إمكان إحياء «معاهدة الصداقة والسلام»، المتضمنة توقيع صفقات ببلايين الدولارات كان أسس لها الرئيس السابق جاك شيراك خلال ولايته الثانية، والتي أفشلها يومها وزير خارجيته فيليب دوست بلازي، في خطابه أمام الجمعية العامة الذي أشار فيه إلى إيجابيات الاستعمار الفرنسي، ما دفع بالجزائريين إلى طي صفحة هذه المعاهدة، وبالتالي عدم إعطاء الأفضلية للشركات الفرنسية في المشاريع الكبرى التي أنجزتها الجزائر، من دون إقفال الباب نهائياً أمامها. من ناحية أخرى، فإن حديث بعض المراقبين عن أن العلاقات الاقتصادية ستكون متميزة خلال حكم الاشتراكيين، أو على الأقل أفضل حالاً من عهد اليمين بقيادة نيكولا ساركوزي، الذي وصفه المسؤولون الجزائريون «بالتاجر» الذي جاء إلى بلادهم لتسويق بضاعته فقط من دون الأخذ في الاعتبار المشكلات العالقة على كل المستويات بين البلدين. لكن، يجب ألا ننسى مطلقاً موقف الاشتراكيين الفرنسيين عندما كان رئيس الوزراء الراحل بيار بيريغوفوا يفرض شروطاً قاسية على طلب قرض قيمته ستة بلايين دولار تقدمت به الجزائر خلال حكم «الإصلاحيين» بقيادة رئيس الوزراء مولود حمروش. ويذكر أن الأمر أدى يومها بوزير الاقتصاد الجزائري غازي حيدوسي، إلى مغادرة العاصمة الفرنسية متجهاً إلى روما حيث نجح في الحصول على القرض المطلوب بفائدة أقل ولمدة أطول مع تسهيلات تجارية استثنائية. لكن هذا لا يعني أن الرئيس هولاند لم ينجح في استعادة الثقة المفقودة بين البلدين، أو قد تمكن من تدوير الكثير من زوايا الخلاف السياسي والاقتصادي الموجودة. لقد أسس الرئيس الفرنسي لعلاقات جديدة وجدية وضعت الشركات الفرنسية في الصفوف الأمامية عندما يتعلق الأمر باستدراج العروض بدءاً من العام الحالي، من دون أن تعطى الشركات الفرنسية امتيازات على حساب المنافسين الآخرين. فالجزائر اعتمدت منذ فترة استراتيجية «تنويع الشراكات» آخذة في حساباتها معادلة «الجودة-الأسعار» بالدرجة الأولى. وبناء عليه، فإن تدافع رؤساء مجالس إدارات الشركات الفرنسة الكبرى ومديريها لمرافقة الرئيس هولاند في زيارته للجزائر، لا تعني مطلقاً أن السوق الجزائرية ستعود مشاعاً لها كما كانت في السابق، فالمسؤولون الجزائريون أفهموا نظراءهم الفرنسيين عند الإعداد للزيارة التاريخية، أن بلادهم لن تقبل بعد اليوم أن تكون سوقاً استيعابية للمنتجات الفرنسية بالأسعار التي تفرضها هذه الأخيرة، كما كان يحدث في الماضي، داعين إلى شراكة فعلية تقبل معها باريس ما كانت ترفضه من قبل للتكنولوجيا والمعرفة والتأهيل، وحل المشكلات المتعلقة بتعويضات حقوق المتقاعدين الجزائريين الذين خدموا في فرنسا، إضافة إلى زيادة عدد التأشيرات بالتوازي مع الدول الغربية الأخرى. وعلى رغم هذه الواقعية في التعاطي السياسي والاقتصادي، فإن فرنسوا هولاند لم يرجع من الجزائر خالي الوفاض، إذ توصل الفريقان إلى إعداد خارطة طريق لتنمية العلاقات الثنائية في عدد من المجالات. وتشير المعلومات التي حرص الجانب الفرنسي على عدم التوسع في الحديث عنها، إلى توقيع عدد من الاتفاقات بالأحرف الأولى، تتضمن عودة فرنسا للتعاون العسكري الذي أبرم عام 2008. كذلك الاتفاق على بناء جامعة تكنولوجية لتأهيل الفنيين ذوي المستويات العالية الذين تحتاجهم فرنسا. إلا أن ما تنبغي الإشارة إليه، خلافاً للشائعات والمعلومات غير الدقيقة التي تم تداولها في السنوات الأخيرة، هو أن الاستثمارت الفرنسية في الجزائر تتجاوز سقف البليوني دولار ومن المتوقع أن تتضاعف مستقبلاً. ويعود الفضل في ذلك للمصلحة المشتركة بين البلدين، وللدور الإيجابي الذي لعبه رئيس الوزراء الفرنسي السابق جان- بيار رافاران في تطوير أنشطة الشركات. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الشركات الفرنسية عززت مواقعها في شكل غير معلن، مع الحصول على عشرات العقود المهمة والخاصة بالتجهيز والإنجاز والتسيير. ومن أبرز هذه العقود، توسيع مطار هواري بومدين من قبل «مؤسسة مطارات باريس»، وتطوير شبكة المياه للعاصمة (شركة «سويز»)، وفي مدينة قسنطينة («مرسيليا للمياه»)، كذلك مترو الأنفاق (مؤسسة النقل الحضري الباريسي)، وشبكة الإعلانات في المطار الدولي للعاصمة من قبل «جيديكو». وأخيراً، الإعلان خلال زيارة هولاند عن إنشاء مصنع في مدينة وهران لتجميع سيارات «رينو»، إضافة الى تعامل نحو عشرة آلآف شركة تجارية فرنسية مع الجزائر. واستناداً لما تقدم، يمكن القول إن العلاقات الجزائرية-الفرنسية ستسير حتماً نحو التحسن مع تبديد الكثير من الخلافات سياسياً واقتصادياً. لكن الجزائر ستتمسك باستراتيجيتها لناحية تنويع الشركات ووضع مصالحها في مقدم أولوياتها من خلال تعزيز تعاونها مع الأوروبيين الآخرين والآسيويين وحتى الأميركيين. لذا، من المؤكد أن يكون لهذه السياسة أثر على عمليات الاختراق التي تحاول الشركات الفرنسية جاهدة دخولها في المستقبل، فالجزائر اليوم هي غير جزائر الأمس، اذ تزداد مداخيلها باطراد مع اكتشافات النفط والغاز بكثرة ملفتة، وكذلك احتياطاتها من النقد الأجنبي وتسديد ديونها الخارجية، ما زاد استثماراتها في أميركا وأوروبا عبر شراء سندات خزينة. ومن المؤشرات المهمة إلى قوة الاقتصاد الجزائري ومتانته، إقراضه خمسة بلايين دولار لصندوق النقد الدولي، ومتابعة خطة الإصلاحات التي كان آخر مؤشراتها تحصيل 5.5 بليون دولار في ثلاثة أشهر على شكل ضرائب مفروضة على «بارونات» السوق السوداء. هذه العناصر الإيجابية غيرت من دون شك شروطَ اللعبة بين الجزائروفرنسا. * مدير شركة «ساغا» للاستشارات الاقتصادية - باريس