عبر أعماله الشعرية والنقدية الغزيرة، ما برح الشاعر اللبناني الفرنكفوني صلاح ستيتيه يدعونا إلى احتفاءٍ متعدد الأبعاد: احتفاء باللغة الفرنسية، التي تعلّمها باكراً في بيروت واختارها أداة تعبيرية، واحتفاء بالثقافة العربية التي تغذّى منها منذ نعومة أظافره وكان (ولا يزال) من أفضل المعرّفين بها في الغرب، واحتفاء بكلمةٍ شعرية متطلِّلبة بقدر ما هي ضرورية، لفتحها أمامنا أراضيَ منقذة وبحثها الدائم عن فضاء تلاق ومصالحة بين ضفّتي المتوسّط، وأخيراً احتفاء بحوارٍ حسّاس وثابت بين الشعر وفن الرسم رَصَدَ الشاعر له جزءاً مهماً من عمله... وللجزء الأخير من نشاطه، رُصد المعرض الذي افتُتح حديثاً في متحف «بول فاليري» في مدينة سيت الفرنسية. وأيُّ مكانٍ أفضل لهذه التظاهرة المثيرة في متحفٍ يحمل اسم شاعرٍ آخر بحجم فاليري، حافظ بدوره على تواطؤٍ حميم مع فن الرسم والفنون التشكيلية عموماً؟ المعرض يقترح علينا نظرةً شاملة على الروابط التي نسجها ستيتيه طوال حياته مع نحو مئة رسّام غربي وشرقي مهم، نذكر منهم بيار أليشينسكي وجورج ماتيو ولاديسلاس كينو وزا وو كي وأنتوني تابييس... وأيضاً الغني العاني وصليبا الدويهي وفيليب عمروش وحسن مسعودي ومحمد سعيد الصكّار وفريد بلكاهية. ولهذه الغاية، تم جمع الكتب ال150 التي أنجزها الشاعر مع هؤلاء الرسّامين إلى جانب أعمالٍ لكلٍّ منهم تعرِّف خيرَ تعريف بأسلوبه وطبيعة عمله. يحترم المعرض الترتيب الزمني لهذا التعاون، أي منذ انفتاح ستيتيه على فن الرسم في لبنان خلال شبابه، مروراً بالصداقات الفنية التي أسّس لها في باريس، ثم في بيروت مجدّداً، وصولاً إلى إنجازاته الأخيرة التي صدرت هذا العام. وفي هذا السياق، نتابع بدقّةٍ مساره الثابت مع الرسّامين، أو بالأحرى مع أعمالهم، وفيه تتجلى إصداء مثيرة بين كتابة الشاعر ورسم الفنان وعملية إثراءٍ متبادلة. «لا يمكنني تخيّل حياتي من دون فن الرسم»، يقول ستيتيه حين يتأمّل العقود الستة التي أمضاها برفقة الرسّامين. ولا مبالغة في ذلك، حين يتبيّن لنا أن الشاعر المولود عام 1929، «اكتشف» فن الرسم نهايةَ الأربعينات في بيروت عن طريق رسّامٍ شاب كان فقد إحدى يديه وفتح لشاعرنا السبيل لفهم فن الرسم عبر تفسيره له تعريف موريس دونيه الشهير لهذا الفن، وهو «أن نتذكّر بأن أي لوحة قبل أن تكون حصاناً في معركة، أو امرأةً عارية، أو طرفةً ما، هي أوّلاً فضاء مسطّح تغطّيه ألوانٌ مجموعة ضمن ترتيبٍ ما». وساهم بحث أندريه مالرو «أصوات الصمت»، الذي كان صدر في ثلاثة مجلدات آنذاك وقرأه ستيتيه بنهمٍ، في توسيع ثقافته الفنية، إلى جانب تأمّله مجموعتَي هنري سيريغ والرسام جورج سير الفنيّتين. محطة باريس كان يجب انتظار وصول ستيتيه إلى باريس عام 1951 وتردّده على متاحف المدينة وأبرز صالوناتها كي يتطوّر ذوقه الفنّي، فلدى عودته إلى لبنان عام 1955، أسّس الملحق الأدبي والثقافي لجريدة «لوريان» الفرنكفونية، حيث مارس النقد الفني بشكلٍ واسع وفريد، وكانت بيروت ممتلئةً وقتَها بالفضاءات الفنية والغاليريات والمجموعات الخاصة والعامة، وتحوّلت إلى محورٍ فني مهم اجتذب فنانين غربيين كباراً، وفيها تعرّف الشاعر إلى فان آرب وبراساي وتصادق مع جورج ماتيو ومان راي وتقرّب من مجمّعين كبار، مثل البارون أورفاتر، وانطلق بدوره في تجميع الأعمال الفنية. كتاب ستيتيه الفنّي الأول حقّقه مع روجيه إدغار جيليه عام 1964. وحتى ذلك الحين، لم تثر صداقاته مع الرسّامين إنجازاتٍ ترتبط به، باستثناء البورتريه الذي خصّه به صليبا الدويهي عام 1949، أو اللوحتين اللتين أهداهما ماتيو له عام 1961. وثمّة رسّامون تصادق الشاعر معهم من دون أن تفضي هذه الصداقة إلى كتابٍ فني مشترك، كما هو الحال مع جان بازان وغزافيي فالس ولورانس سوتّون، الذين رسموا بورتريهات له، أو مع فرانسوا شابوي، الذي أنجز مع ستيتيه لوحات تخطيطية، أو مع المصوّر الفوتوغرافي ستيفان باربيري، الذي رافق الشاعر خلال رحلتيه إلى اليابان في عامَي 2008 و2011. أما الكتب الفنية التي تعاون فيها مع الرسامين، فبقيت متفرّقة ومحدودة حتى نهاية الثمانينات، قبل أن يتسارع إيقاعها منذ بداية التسعينات. وما يفسّر هذا التسارُع هو تفرّغ ستيتيه لعمله الشعري، بعد انتهاء عمله الديبلوماسي، ولكن أيضاً رغبته العميقة في ترك فن الرسم يتغلغل داخل كتاباته الشعرية كما تغلغل في السابق داخل حياته. وفي هذا السياق، تحوّل «العبّار بين ضفّتي المتوسّط»، كما سمّاه الباحث بيار برونيل، إلى عبّارٍ بين فضاءات فن الرسم الصامتة وفضاء الكلمات الذي يتعذّر تلمّسه. وفي هذه الكتب الفنية، غالباً ما شكّلت كتابات الشاعر جواباً أو صدى لأعمالٍ فنية سبق لأصدقائه الرسّامين أن أنجزوها، ولكن في بعض الأحيان، كان ستيتيه يطلب بنفسه من بعض الرسامين تزيين كتبه أو تأويلها بالرسوم أو التخطيطات، كما يتجلّى ذلك مع أنتوني تابييس، أو مع خطّاطين عرب، مثل مسعودي والعاني وبلكاهية والصكّار. أما تعاوُنه أكثر من مرّة مع بعضهم، فيفسّره شعور ستيتيه بتواطؤٍ كبير معهم وعثوره في عملهم على قيَمٍ ثلاث جوهرية في نظره، هي التطلّب والمخيّلة والحساسية المرهفة.