من بين الحركات الطليعية الكثيرة التي عرفتها أوروبا خلال القرن الماضي، حركة «كوبرا» التي كانت من دون شك الحركة الثقافية الأقصر عمراً (1948 - 1951)، لكنّ هذا لم يمنعها من ترك بصمتها القويّة في تاريخ الفن منذ ولادتها حتى اليوم. وهذا التأثير يبرز جليّاً في المعرض الذي يخصّصه لها متحف الفن المعاصر في مدينة دنكرك الفرنسية، والذي يحاول، عبر أعمالٍ فنية وشعرية مختلفة، تغطية الفترة الممتدّة من عام 1945 وحتى عام 1980، والكشف عن مصادر هذه الحركة وسرّ السنوات الأربع المجيدة من حياتها، من دون إهمال تطوّر أعضائها بعد انحلالها وبالتالي ديمومة الروح التي أسّسوا لها. وتجدر الإشارة أولاً إلى أنّ هذه الحركة انبثقت من رحم السرّيالية، وبالتالي شكّلت خير امتدادٍ لها. وهذا ما يتجلى في القيِم التي رفعها أربابها وفي الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها من خلال برنامجهم الذي اختصره الناقد بيار داك على النحو الآتي:»إنهم ضدّ كل مَن هو مع، ومع كل مَن هو ضدّ». والمعروف أن كريستيان دوترومون وأسغر يورن نشطا لفترةٍ ما داخل مجموعة أندريه بروتون قبل أن يؤسسا هذه الحركة التي تتميّز عن السرّيالية وسائر الحركات الطليعية الأخرى بنقطتين رئيسيّتين: انتماء معظم أعضائها إلى دول أوروبا الشمالية، من هنا كلمة «كوبرا» ( تتألف من الأحرف الأولى لكوبنهاغن وبروكسل وأمستردام)، وتركيز نشاطهم على ضرورة تحاور الوسائط والأشكال التعبيرية الفنية المختلفة. ولم يميّز أرباب حركة «كوبرا» بين شعرٍ ورسمٍ، علماً أن كلمة «كوبرا» لا تستحضر اليوم إلى أذهان معظم النقّاد سوى أسماء رسّامين مثل يورن وكاريل أبيل وكورناي وبيار أليشينسكي، متناسين أن معظم هؤلاء مارسوا الكتابة الشعرية أيضاً وأنّ داخل هذه الحركة شعراء كباراً مثل دوترومون مارسوا الرسم، تماماً مثل خوان ميرو الذي كتب قصائد يجهلها معظمنا، وبروتون الذي أنجز لوحاتٍ ورسوماً بالكاد معروفة. وضدّ هذه النزعة المتجذّرة فينا، والتي تدفعنا إلى رؤية جانبٍ واحد من نشاط شخصٍ ما، ثار أرباب حركة «كوبرا» وعملوا على تحرير الناس من «المونولوغ» الذي يجعل كلاً منا حبيس وسيلة تعبيرية واحدة، عبر الدعوة إلى فتح حوار بين وسائط فنية مختلفة وإلى تكثيف الاختبارات والتعاون. وفي هذا السياق، نجد في الأعداد المختلفة من مجلتهم نصوصاً نقدية وقصائد إلى جانب صور أعمالهم الفنية، كقصيدة «القمح» لأخ يورن، يورغن ناش، ويقول فيها:»لم أكن مجرّد سنبلة أو حبّة بل حقل قمحٍ بكامله لم أكن أشعر به وإنما فقط بالريح». قولٌ ينطبق على جميع أعضاء حركة «كوبرا» ويتوقّع ما سيكون عليه قدرها، أي سلسلة متوالية من التحوّلات الخصبة والسريعة. وفي هذا السياق أيضاً اكتشف يورن ودوترومون، فور ابتعادهما عن الحركة السرّيالية، مفهوم «الكلمة - اللوحة» الذي سمح لهم بتوحيد طاقات فنّي الرسم والشعر داخل أعمالٍ مشتركة نفّذها أعضاء حركتهم في شكل جماعي. ومنها أعمال أنجزها دوترومون مع كورناي أو أتلان خلال مرحلة «كوبرا»، أو تلك التي حقّقها مع أليشينسكي أو سيرج فاندركام أو هوغو كلاوس بعد انحلال الحركة. ومصدر هذا الجهد الجماعي داخل عملٍ واحد هو من دون شك الكتب والمجلات التي أخرجها السرّياليون وتتعانق فيها النصوص بالرسوم التزيينية، أو الألعاب التي ابتكروها وتطلّبت مشاركةً جماعية، كورق الشدّة الذي رسموا أوراقه في مرسيليا أو لعبة «الجثّة اللذيذة» الغنيّة عن التعريف. لكنّ أعضاء حركة «كوبرا» ذهبوا في هذا التوجّه إلى حدٍّ تحوّل الرسم والكتابة فيه إلى جسدٍ واحد، تماماً كما في اللوحات الكبيرة التي بدأ في إنجازها خوان ميرو في عام 1925، وهي تتضمّن كلمات تتحلّى بطابع تشكيلي واضح وبالتالي تتجاوز وظيفتها الدلالية المحضة. والهدف من ذلك كان التحرّر من «البربرية التجريدية للحروف اللاتينية»، أو بشكلٍ آخر، من التجريد الذي ينخر لغة المرء وتفكيره ومعظم أفعاله، والسعي إلى المحافظة على ما تخلّفه اليد التي تكتب من آثار اندفاعها وتشطيبها واستعاداتها. وهذا ما قاد دوترومون إلى اعتبار نتيجة الكتابة ذات أهمية أقل من فعل الكتابة نفسه باختلاجاته الأوّلية. ومن هذا المنطلق أيضاً، قال:»أن نكتب هو أن نخلق نصّاً وأشكالاً معاً». معرض شامل أما المعرض الحالي فيتألّف من ثماني صالات، نتعرّف في الصالة الأولى منه إلى تاريخ حركة «كوبرا» من خلال أعداد المجلة التي صدرت تحت هذا الاسم، ولكن أيضاً من خلال مجلاتٍ ومنشورات سابقة (ملصقات وبيانات وكاتالوغات) تبيّن مصادرها الدنماركية والهولندية والبلجيكية. وفي الصالة الثانية، نستكشف دور يورن الرئيسي في تأسيس هذه الحركة وتوجيهها على المستويين النظري والعملي. ونشاهد أيضاً عدداً من لوحاته التي رسمها من دون أي تصميم مُسبق وبعفوية ناتجة من نزعة تجريبية خالصة، تجاورها لوحاتٌ لهنري هيروب تتميّز بأسلوبٍ شعبي حيّ وأخرى لإيجيل جاكوبسن ترتكز على التلوين العفوي، وأخرى لكارل هينينغ بيدرسون تشكّل بألوانها استحضاراً لولادة الكون. وفي الصالة الثالثة، نجد أعمالاً لفناني حركة «كوبرا» الهولنديين، مثل كاريل أبيل وكورناي وكونستان ولكن أيضاً يان نيوفينويس وأنتون روسكينس وتيو وولفكامب، وجميعهم تأثّروا بعفوية الرسّامين التجريديين الدنماركيين وطريقة تلوينهم وبمراجع الفنون الشعبية أو رسوم الأطفال. ورُصدت الصالة الرابعة لمنحوتات أبيل حول موضوع السيرك التي تدعونا إلى تأمّل العالم كلعبةٍ هزلية، شعرية ومأسوية معاً، وتندرج ضمن الروح اللعبية الساخرة لحركة «كوبرا». وفي الصالة الخامسة، نتعرّف على مساهمة بعض أعضاء حركة «السرّيالية الثورية» البلجيكية في انطلاق حركة «كوبرا»، وعلى رأسهم الشاعر دوترومون، وعلى دور بعض رسّامي «فن الرسم البلجيكي الفتي» في نشاطاتها، مثل لويس فان لينت وبول بوري وفاندركام. مع إبراز دور النحّاتَين المهمَّين راوول أوباك وراينهود. أمّا الصالة السادسة فخُصّصت للوحات الفنان البلجيكي أليشينسكي اللافتة ضمن حركة «كوبرا»، كإخراجه مجموعة من أعداد مجلة الحركة وتنظيمه معرضها الأخير في مدينة لياج عام 1951 وتحقيقه مجموعة من اللوحات المشتركة مع بعض أعضائها. وفي الصالة السابعة، تبرز قدرة حركة «كوبرا» على جمع آثار الفنانين الذين شاركوهم مفهوم التجريب لمواجهة حركتَي التجريد والواقعية الاشتراكية، لينكشف بذلك الجانب الدولي لهذه الحركة من خلال أعمالٍ لأعضائها الفرنسيين والألمان والإنكليز والأميركيين، مثل جاك دوسيه المتأثّر ببول كلي وميرو، وستيفن غيلبرت الذي تعجّ لوحاته بطيورٍ على شكل حشرات، وشينكيشي تاجيري الحاضر بمنحوتتَين أنجزهما انطلاقاً من مواد خردة. أما الصالة الثامنة والأخيرة فرُصدت لإظهار الدور البارز للشعر في حقل نشاطات حركة «كوبرا»، وذلك من خلال مجموعة من «الكلمات - اللوحات» التي أنجزها يورن أو دوترومون مع رفاقهما منذ عام 1948 وتتجلى فيها الروابط الحميمة التي تجمع الشعر بالفنون التشكيلية، أو من خلال أعمالٍ أخرى تعكس المسعى الشعري الواضح لفناني هذه الحركة أو المسعى التشكيلي لشعرائها.