في سياق نشاطات مهرجان «أصوات حية» الشعري الذي اختُتمت دورته الثانية في مدينة سيت (جنوبفرنسا) قبل أيامٍ قليلة، انطلق معرضٌ مهم في غاليري «الفضاء المفتوح» للشاعر والفنان الكولومبي إينان بورغوس شكّل حدثاً داخل المهرجان نظراً إلى قيمة اللوحات التعبيرية المثيرة التي يتألف منها وطريقة إنجازها الفريدة كاحتفالٍ تشكيلي بالكلام الشعري. نعرف بورغوس منذ سنواتٍ شاعراً من أركان المهرجان المذكور. ولكن حتى معرضه هذا، كنا نجهل تعدّد مواهبه ومساره الغني بالمحطات والابتكارات. من مواليد كولومبيا عام 1957، بدأ بورغوس الكتابة والرسم كردّ فعل على العنف والحرب اللذين لطّخا سنين حياته الأولى؛ ولشحذ مهاراته وتحصيل العلم والكفاءة غادر وطنه سريعاً والتحق بأبرز الأكاديميات الفنية الكندية والأوروبية قبل أن يستقر في مدينة مونبيلييه الفرنسية وينطلق في سيرورة إبداعٍ خصبة سلكت سبلاً فنية مختلفة، كالشعر والرسم والمسرح، ضمن بحثٍ فني واحد : بحثٌ عن الحقيقة والمعنى في عالمٍ فارغ ضمّر غياب الواقع واللامبالاة فيه العلاقة الجوهرية بين الإنسان ومحيطه. مقاومٌ بلا مهادنة لهذه اللامبالاة، يعمل بورغوس منذ فترة على مشاريع فنية عدة في آنٍ واحد وضمن هاجسٍ واحد: إعادة، إلى بداهة الفن التي يتعذّر استبدالها، قدرتها على جذب الأشياء والعلامات. في معرضه الحالي الذي حقّق لوحاته بين رُشدٍ وشغفٍ، سعى بورغوس إلى الاحتفاء بالكلام الشعري من منطلق عُريه الجوهري وتجرّده من أي زخرفة. كلامٌ فجٌّ مثل عري امرأة، بلا أحكام مسبقة أو أكاذيب. كلامٌ حيّ ومتمرّد على نار الصمت الذي يهذّبه ويذهّبه، وهو مرفوع على موجة إيروس. كلامٌ يفلت فوق أجساد نساءٍ عاريات في وضعيات حرّة، على خلفية تشكيلاتٍ تعبيرية محمومة وشبه مجرّدة، هارباً من الخطابات التي تحاول أسره، ملتبساً وغامضاً، كما لو أنه آتٍ من سديمٍ غير مسموع، لكنه مرئي لأولئك القادرين على إبصار الروعة تحت جلد المظاهر. لا يسعى بورغوس في لوحاته هذه إلى معرفة طبيعة الكلام الشعري، أي إن كان إلهاماً تنفخ به المُلهِمة أم فعلاً ملموساً وصوتياً منفصلاً عن الأنا، بقدر ما يسعى إلى الشهادة على حضوره فينا ومعنا منذ بداية الخليقة. وربما لهذا يتصوّره على شكل حديقةٍ، مجرّدة من أي دلالة دينية، يتبادل فيها الشعراء ومُلهِماتهم نشواتهم المُبرقة بين الينابيع والشلالات، وبروعةٍ تشمل المحسوس وغير المحسوس وتمجّد أسطورة أورفيوس. ومن ورثة هذا الإله الشرعيين استقى بورغوس تلك الأقوال الشعرية التي يمكننا قراءتها على سطح لوحاته وتشكّل في الوقت ذاته عنصراً تشكيلياً داخلها. أقوالٌ تعود إلى جان دو لا كروا وبيار رونسار وخوان رامون خيمينيز وبول فاليري ومارينا تسفيتاييفا ورينه شار وإدواردو سانغينيتّي وصلاح ستيتيه، وإلى الفنان نفسه الذي لطالما مارس الشعر إن بالريشة أو بالقلم. أقوالٌ أقل ما يمكننا أن نقول فيها هو أنها تنضح حباً وأملاً وجمال. في معرض إجابته على سؤال: لماذا الشعر؟ الذي يطرحه في النص المقدّم لأعماله المعروضة، يستشهد بورغوس بجملةٍ من كتاب الفيلسوف الفرنسي فابريس ميدال يقول فيها: «الشاعر هو إنسان الحب الشديد. لماذا؟ لأن الحب يقتلعنا من ذواتنا ويدفع بنا إلى المستحيل ويفجّر الحدود الضيّقة التي تحاصرنا. بالحب، لا يعود الشاعر يمتلك ذاته ويجد داخله شخصاً آخر أكثر شبهاً منه لنفسه. أن نحبّ هو أن نجازف وندخل عاريَين في المجهول. أن نكون جاهزين لفقدان كل شيء. لإعطاء كل شيء. لتلقي كل شيء. الشاعر يعرف أن أقصى الشجاعة هو أن نحب! هذه هي أمثولة الشعر وحضوره الذي لا يطاق!». وكما لو أن جميع هذه اللوحات لم تشفِ غليله، أنجز بورغوس بموازاتها كتاباً فنياً رائعاً انطلاقاً من قصيدة للشاعر اللبناني الفرنكفوني صلاح ستيتيه بعنوان «إيروس غراموفون»، أصدر منه خمسين نسخة فقط، وقّع بعضها خلال المهرجان. كتابٌ تكمن قيمته في قصيدة ستيتيه الجميلة طبعاً، ولكن أيضاً في تصميمه الذي جاء على شكل غلاف أسطوانة قديمة، نظراً إلى عنوان القصيدة وموضوعها، وفي اللوحات الثلاث المدوّرة التي تقابل مقاطع القصيدة الثلاثة وتقترب في طريقة تشكيلها من الأسلوب الذي اعتمده الشاعر - الفنان لتحقيق لوحات معرضه. إذ تتجلى فيها أيضاً وجوهٌ وأجسادٌ مرسومة في شكلٍ موجَز على خلفية تشكيلاتٍ تعبيرية مجرّدة تعكس بنتوءاتها وألوانها الأرضية الباردة أو الحارّة دلالاتٍ كثيرة. لوحاتٌ ترافق القصيدة كموسيقى تشكيلية لها وتحوّلها بذلك إلى أغنية محفورة على أسطوانة. إروس غراموفون عذوبةٌ هي الأسطوانة القديمة صوتٌ يدور، متعب، ويمّحي كل هذا الحب الأسوَد! هو الذي يدور في الشارع، هو الذي يمرّ والشارع ثلجٌ والألوان تذوب يا أيتها الألوان المتوهجة، راياتكم تنام! تنام؛ ثم تفيق. في زمنٍ للاحمرار: إنها الظهيرة، حمراءٌ وذئاب - جرحٌ في أنوثةٍ من شمس. صوتٌ، صوتٌ كان يغني. كان يغني بعذوبة الأسطوانةٍ أسطوانة ما قبل الموت، ما قبل الأذن المغلقة بالشمع. هذا بعد صيفٍ غني بانفجارات ماء وإذ بالجسد مع الجسد يبتكران الربيعَ أتى الغناء، ثم انطفأ. ضيّع العشيقان رأسهما الأوحد. بحثا عنه. وجداه. ضيّعاه من جديد. يا ألم الحب! العشّاق، كم هي مبعثرة حياتهم وموتهم أيضاً، موتهم بعثرة وحدها أسطوانتهم تُكمل أخدودها الأسوَد.