باريس تعشق أكرم خان ولا تبخل عليه بمظاهر هذا العشق، وذلك كلما أتى الفنان إلى مدينة النور لتقديم أحد عروضه منذ العام 2002، وبشعبية أكبر منذ 2008 حين ابتكر استعراض «إين أي» من بطولته مع النجمة السينمائية جولييت بينوش. فهو، سواء رقص فوق خشبة مسرح «دو لا فيل» الوطني الضخم، أو «تياتر دي شانزيليزيه» أحد أفخم مسارح باريس، ينجح في جذب الجمهور وفي تحقيق المعادلة التي يسعى إليها أي مسرح إذ يعلن عن بيع كل البطاقات الخاصة بعروض أكرم خان، قبل أسابيع من سهرة الافتتاح. وهذا ما حدث أخيراً في مسرح «دو لا فيل»، حيث يُقدّم استعراض «دش» DESH من تأليف أكرم خان ورقصه وإخراجه أيضاً. وكلمة «دش» مجتزأة من كلمة «بنغلادش»، مسقط رأس خان الذي ولد وترعرع في لندن، وعاد إلى موطنه حديثاً بحثاً عن جذوره وذاكرة والده الذي لطالما أراد إطلاع ابنه على تراث بلاده. و «دش» تعني الأرض تحديداً. ويصرّح خان أنه ظل سنوات طويلة يرفض مساعي الوالد لربطه بأرضه، معتبراً أن ذاكرته لندنية وتجربته أوروبية، في الحياة والثقافة، وهذه كلها عناصر لا علاقة لها بالبلد حيث ولد والده، مضيفاً أنه سينقل إلى أولاده ذات يوم تراثاً من نوع مختلف كلياً. لكن أكرم خان عاد إلى وطنه الأصلي، أعاد اكتشافه، بحياته اليومية وتراثه الثقافي والفني، وأرضه ومياهه وشوارعه المزدحمة، وفقره والهوية. سجّل كل هذه الأشياء، وكتب عنها، وراح يتخيلها مترجمة إلى حركات راقصة، ثم عاد إلى أوروبا وابتكر استعراض «دش» في شكل تحفة فنية لا تقاوم، تسحر المتفرج وتجرفه معها، منذ المشهد الافتتاحي وحتى النهاية، في عالم موازٍ نابع من حقيقة بنغلادش ومن الخيال الخصب لأكرم خان. يتأقلم جسمانياً يرقص خان وحده على المسرح ساعة ونصف الساعة، لكنه يتكلم أيضاً، ويدخل في حوار هاتفي مع شابة من بنغلادش، ثم مع صبية أخرى يفترض أنها ابنته الصغيرة. يتحرك على إيقاع شوارع بنغلادش وضجيجها وسياراتها. ثم ينتقل إلى الريف الهادئ، حيث خرير المياه الجارية يحلّ محل ضوضاء المدينة. وفي كل هذه الأثناء يتأقلم الفنان جسمانياً مع الأحداث والأصوات المحيطة التي يسردها العرض، فيتسلق الجدران ويقفز منها إلى الأرض، ويضيع بحركاته الراقصة وسط ديكور من القماش يتدلى على الخشبة. وفي مشهد آخر، يجلس على الأرض، ويرسم فوق رأسه الحليق شكل وجه بشري يخاطب المتفرج. هذا المقطع يفضي إلى اندماج الجمهور كلياً مع خان، ويجلب له إثر انتهائه تصفيقاً حاداً وهتافات التقدير والإعجاب. وتتفاوت الموسيقى التي يرقص عليها خان بين الهندية والشرقية العربية والغربية، وهي من أبرز مميزات عرض «دش» الذي سيجول به أكرم خان العالم، كما قال، بعد افتتاحه في لندن وتقديمه تالياً في باريس. ساهم أكرم خان في إخراج العرض الافتتاحي للألعاب الأولمبية في لندن العام الماضي، تحت جناحَي المخرج البريطاني داني بويل، كما قدّم وصلة راقصة مع 50 راقصاً وراقصة، بعنوان «مشهد الذكريات». ويُعِدّ خان من الآن، عمله التالي ل «دش»، وسيكون عرض باليه مستوحى «طقوس الربيع» Le Sacre du printemps في مناسبة مرور مئة سنة على قيام أيغور سترافينسكي بتأليفه، وسيحمل عرض خان عنوان ITMOI.