هل تختلف آليّات التلقّي حين تنتقل الكتابة من وسيط مرن إلى حدّ فضفاض، إلى آخر يعمل وِفق أُطُر مستقرّة؟ يتّصل هذا السؤال بالمُدوّنات الإلكترونية التي تولد على الإنترنت، ثم تنتقل إلى كتب الورق، إذ يتيح الفضاء الإلكتروني مساحة أوسع من الحرية والتفاعل بين الكاتب وقارئه، كما يخلق علاقة مباشرة بين النص والقارئ والكاتب. وأحياناً، يؤدي هذا الوضع إلى حال من الاستسهال، لا تعطي وزناً لقيمة النص. للجنون حدود افتراضية آمنة تبدو أغلب الكتابات العربية على شبكة الإنترنت كأنها لم تُنضَج على نار هادئة. في المقابل، يعطي كتاب «دولتي على فايسبوك» للشاعرة والروائية المصرية فدوى حسن، الصادر أخيراً عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، انطباعاً بأنه يشكّل حالاً مختلفة. يبدأ الاختلاف من جديّة التعامل مع فكرة الكتابة، كما يتجلّى في أدوات التعبير والصياغة المُحكَمَة إلى حدّ الإتقان، إضافة إلى صفاء المعنى، وتكثيف الجمل بعيداً عن زوائد البلاغ. وساهمت هذه الأمور في تظهير أمزجة الكاتبة، سواء عند التفاعل مع حدث «مذبحة آولتراس أهلاوي في ستاد بورسعيد»، أم لدى تسجيل مقطع وجداني مقتبس من آخرين، أو غير ذلك من مناخات الكتاب. بمعنى آخر، ثمة اهتمام بالقيمة والنضج الفني والمعرفي، لا يتبدل عند الكتابة على الوسيط الإلكتروني أو الانتقال إلى الوسيط الورقي. وتتناول مقدمة الكتاب، وعنوانها «أحلام صالحة للنشر»، هذا الأمر بوضوح عبر كلمات شاعرية الإيقاع. وتنجح الكلمات في تقديم رؤية مختلفة للعلاقة بين الكاتبة والإنترنت، إذ لا تبدو لها الشبكة مجرد مساحة لتدوين خواطر سريعة، بل هي «المكان الافتراضي الوحيد القادر على احتوائي أنا وظلي معاً... وتمثّل رصيداً جيداً من السعادة، يحمي من مشاق العمل الروتيني وسخافات الشارع». وفي موضع آخر، تصف علاقتها مع الشبكة العنكبوتية بأنها «وطن صُنِع بحجم جنوني وأحلامي، بل إنني أخذت أبتكر الحيلة وراء الحيلة، ضماناً للبقاء داخل حدوده الآمنة أطول وقت ممكن». تتوزّع هذه الرواية على 7 أقسام، لكل منها عنوان لا يخلو من الدلالة، على غرار «رامبو في زمن الثورات المغدورة»، و»الرسائل تضلّ الطريق إلى هناك»، و»غواية اللون الأسود»، و»هنا بيتي... هنا أسكن اللغة». في قسم أول عنوانه «جثة لا تنتمي لأحد»، تسجّل الكاتبة مقاطع شعرية، سجلتها في أوقات متباينة: «في هذا الجزء من الكتاب اخترت هذه المقاطع الشعرية تحديداً في تاريخ ولحظة نشرها، لارتباطها بما تمرّ به مصر بعد الثورة من أحداث انعكست على حالتي المزاجية، شأن كثير من الناس. فكل مقطع عبارة عن حال عشتها، وحدث يعيشه وطن ما زال يراقب ثورته من خلف زجاج مجروح». تزاوج هذه المقاطع بين العام والخاص، وتشير إلى انشغالات الكاتبة، فيما تضيف تعليقات القراء أبعاداً أخرى إلى ما نقرأه من شذرات شعرية، لها علاقة باعتقال مجموعة من شباب الثورة ومحاكمتهم عسكرياً، أو أحداث شارع محمد محمود أو غيرهما. وفي مثال مُعبّر، تأتي كلمات من الكاتبة تشفّ عن حال من تابع مثل هذه الأحداث، لتقول: «أي أم ولدتك أيها النوم، لأقبل قدميها، فتأذن لك بزيارتي؟». وفي قسم بعنوان «الرسائل تضلّ الطريق إلى هناك»، يظهر جانب آخر من تجربة الكاتبة. إذ يضمّ نصّاً مترجماً للشاعرة سيلفيا بلاث، تسبقه مقدمة تمهد الطريق أمام القراء للدخول إلى عوالم تلك الشاعرة التي ماتت منتحرة بوضع رأسها في فرن البوتاجاز، تاركة خلفها قصاصة تقول: «عندما يذهب النوم، تنتهي الحياة». ويتضّمن الكتاب أيضاً حديثاً صحافياً أُجري مع الكاتبة عقب نشر روايتها الأولى، يظهر تحت عنوان «الروائية الوحيدة المُنقّبة في مصر». من المستطاع القول إن «دولتي على فايسبوك» هو كتاب لشاعرة «ضلّت» طريقها إلى الرواية. ففي كل حال إبداعية لها، حتى لو كانت سرداً، نجدها تتحرك بحريّة في الواقع الافتراضي، مع تذكّر أنها حرية منقوصة لا مقابل لها في الواقع الحقيقي.