لا أقل من وَصْف ظهور «الكتاب الانغماسي» Immersive Book في 2012 بصنع نص يوازي «ألف ليلة وليلة»، وهي حلم عتيق راود كُتّاب الرواية، في المنام والصحو. باح الكاتب الروائي البرازيلي خورخي بورخيس بهذا «السر» المُعلَن، وبأن أحداً لم يستطع تحقيقه. ليست «ألف ليلة وليلة» نصاً، بل حياة أسطورية كاملة. عاشت الراوية حكاياتها، بل نسجت حياتها حول ما روته. لأن حياتها كانت على الخيط الرفيع لقدرتها على جرّ المستمع إلى الانغماس كليّاً في ما تحكيه، باتت الرواية مساحة تأسر مستمعها إلى حدّ أن حياة المتلقي تداخلت مع ما يتلقاه من الرواية، جزءاً بعد جزء وحدث عقب حدث، فانغمس كليّاً فيها. صار العيش اليومي للمتلقي جزءاً من أحداث الرواية، بل تبدّل المتلقي بأثر من انغماسه في الرواية. بدل أن يقتل شهرزاد الراوية، تزوّجها. وبلغ انغماسه في رواية «ألف ليلة وليلة» أنه وجد نفسه عند ختامها، متورّطاً في علاقة مباشرة مع الراوِية، وصار أباً لأولاد أنجبهم ممن كان يزمع على قتلها منذ الكلمة الأولى للرواية. شهريار هو القارئ-المتلقي المنغمس كليّاً في الرواية. ربما حلم الكتّاب دوماً أن يستولوا على خيال الجمهور على طريقة شهريار. ربما حقّق بعضهم جزءاً من هذا الانغماس. الأرجح أن أحداً لم يتمكن من تكرار ما فعلته راوِية «ألف ليلة وليلة» وروايتها. هل فعلتها التطبيقات الذكيّة للكومبيوتر بمؤازرة تقنيات المحاكاة الافتراضية، فنجحت في العام 2012، حيث فشل الكتّاب جميعاً، عبر صنع «الرواية الانغماسية»؟ هل يُقال يوماً أن شابة أميركية (هي أماندا هارفرد) هاوية للرواية والتكنولوجيا، كانت شهريار العصر الرقمي، عندما كتبت رواية «النُّجاة» («سيرفايفورز» Survivors). وقدّمَت هذه الرواية (وهي مخصّصة للشباب والمراهقين) عبر تطبيق رقمي للأدوات الذكيّة، يتضمّن عناصر تفاعلية كأشرطة الفيديو وتغريدات «تويتر». جيل ثانٍ من الكتاب الإلكتروني مع «الكتاب الانغماسي» Immersive Book، أو «الكتاب الإلكتروني المُعزّز» Enhanced e-Book، بات ضرورياً على كُتّاب الرواية، بل ناشريها أيضاً أن ينغمسوا في صنع المواد المتعددة الوسائط، كأشرطة الفيديو ومقاطع الموسيقى والروابط مع صفحات «فايسبوك» وتغريدات «تويتر»، إضافة الى «نص» الكتاب. لنعد إلى مثال رواية «النُّجاة». قبل 3 سنوات، وضعت الكاتبة أماندا هارفرد «النص» الأساسي لروايتها «سيرفايفور»، لكنها امتلكت أيضاً تصوراً عن طريقة نشرها، خصوصاً في الوسيط الرقمي. لم تقدّم دور النشر لأماندا عرضاً يلاقي الطريقة التي باتت تفكّر أنه يجب «حكاية» هذه الرواية بها. فلجأت إلى...نفسها! واستعانت بوالدها وأصدقائها. وكتبت روايتها بالوسائط المتعددة، المُدعّمة بالتقنيات التفاعلية. وأخيراً، تبّنتها إحدى دور النشر الإلكترونية، ثم صنعت تطبيقاً فائق التفاعلية عنها، كي يتوافق مع رؤية الكاتبة عن كيفية «حكاية» الرواية في الزمن الرقمي المعاصر! واستطراداً، تنجز دار «بنغوين» خمسين كتاباً انغماسياً مع نهاية العام الجاري، كما تعمل دار «سيمون أند شوستر» على ستين كتاباً انغماسياً. في السياق عينه، ثمة دار نشر إلكتروني (هي شركة «آبل» الشهيرة) أطلقت مصطلح «آي بوك 2» iBook2 على الجيل الانغماسي من الكتب الإلكترونية، وصنعت له برمجيات متقنة. وفي السنة الجارية، أطلقت رواية «شوبستكس» عبر تطبيق رقمي انغماسي. وسارت في هذا التطوّر عينه دور نشر إلكترونية اخرى. وتلقى السوق نُسخاً انغماسية من روايات كلاسيكية كروايات «فرانكنشتاين» و «مغامرات تان تان» و«على الطريق» وغيرها. الرواية على طريقة... «فارم فيل» ثمة من يرى أن الجيل الثاني من الكتاب الإلكتروني يغيّر عالم الكتابة والنشر كليّاً، فمثلاً لا يتردّد بانيو جيانوبولوس، وهو مؤسس دار النشر الإلكترونية «بلاك ليت بابلشر.كوم» Backlitpublisher.com، في الإعراب عن اعتقاده بأن الأجيال المراهقة والشابة تقرأ أطناناً من النصوص يومياً، بل ربما كانت الأكثر قراءة تاريخياً، إذ يقرأ هؤلاء يومياً سيولاً من النصوص على الإنترنت والكومبيوتر والأجهزة الذكية، إضافة إلى تلك التي تظهر على مواقع الشبكات الاجتماعية والرسائل النصيّة القصيرة وغيرها. وبالنظر إلى أنها منغمسة أيضاً في ممارسة الألعاب الإلكترونية ومشاهدة التلفزة ومتابعة الإنترنت والتواصل عبر الشبكات الاجتماعية وتغريدات «تويتر» وسواها، يتوجّب على من يريد أن يقصّ رواية عليها أن يضعها في سياق مناسب، بمعنى صياغتها كي تصبح تجربة إلكترونية انغماسية تتضمن التلفزة والكومبيوتر والهاتف، بمعنى أن تكون «نصاً» على هيئة الشبكات الرقمية الاجتماعية. باختصار، يعتقد جيانوبولوس أن الرواية يجب أن تصبح «قصّاً تكنولوجياً» يُعاش كتجربة في شبكة اجتماعية رقمية، عبر الوسائط المتعددة والأجهزة الذكيّة (بما فيها خصخصة الحبكة، بمعنى أن يصوغ القارئ حبكته حرفياً، على غرار ما يفعل في الألعاب الإلكترونية)، وليس كأنها أحداث ثابتة التسلسل تُحكى بالكلمات. يعتقد جيانوبولوس أن الأمر يتطلّب التفكير في «تكامل» بين الكتاب الإلكتروني والطريقة التي تمارس بها التلفزة والسينما، فن القصّ الروائي. ماهي التجربة التي يراها جيانوبولوس نموذجاً للقصّ الروائي؟ إنها اللعبة الإلكترونية الاجتماعية الشهيرة «فارم فيل» Farmville! وليس الأمر مجرد افتراض. فإضافة الى الروايات التي يصنعها جيانوبولوس في «باكليت»، ظهرت رواية تتمتع بالموصفات الانغماسية المُشابهة ل «فارم فيل»، حملت اسم «فرايت» Freight، من «صنع» الأميركي ميل بوزورث، الذي ركّب مُكوّناتها تقنيّاً بنفسه، ونشرها كتطبيق للمنصات الإلكترونية المختلفة. ثمة خطوة تصلح لتصنّف علامة طريق على هذا المسار، إذ اشترت «فايسبوك»، وهي الشبكة الإجتماعية الرقمية الأوسع، تقنية «بوش بوب برس» Push Pop Press التي صنعها الأميركي مايك ماتَس وكيمون تزنتريس، وهما مُهندسان إلكترونيان كانا يعملان في شركة «آبل». وبصورة مختصرة، تُمكّن هذه التقنية الأفراد من صنع كتب انغماسية كي تظهر كتطبيق إلكتروني على الأجهزة الذكيّة، حتى لو لم يكونوا على درجة عالية من التمكّن من التقنيّات الإلكترونية. ولعل هذا الأمر على درجة عالية من الكثافة في دلالته على الطريق الذي بات النشر الإلكتروني منغمساً فيه. [email protected]