لم تتمكن آلاف العائلات العراقية في بغداد من النوم ليل الأربعاء الأخير من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ليس بسبب خبر مفرح سمعته من شاشات التلفزيون، ولا لأنها أعدّت سهرة جميلة في تلك الليلة، بل لأن الأمطار التي تساقطت ليلة 26 من الشهر الماضي، لأكثر من عشر ساعات متواصلة أغرقت كثيراً من المنازل والشوارع في العاصمة ودفعت العائلات للسهر في تفريغ منازلها من المياه المتسربة. لم يشهد العراقيون تساقط أمطار بهذه الكميات منذ سنوات طويلة، حدّدتها دائرة الأرصاد الجوية العراقية بثلاثين عاماً. وعلى رغم التوق إلى المطر بعد سنوات من الجفاف والتصحر، إلاّ أن مجاري العاصمة العراقية لم تكن مستعدة لاستيعاب هذه الكميات، بخاصة أن الدائرة أعلنت مراراً أن المتوافر من شبكات المجاري لا يكفي إلاّ لثلاثين في المئة من الحاجة الفعلية لمدينة بغداد. العائلات الساهرة في منازلها استخدمت أواني الطبخ لتفريغ المياه المتسربة إلى المنازل لكن المشكلة الأكبر التي واجهتها هو امتلاء الشوارع بالمياه وعدم قدرتها على الخروج من المنازل، وعلى رغم أن الحكومة العراقية أعلنت يومي الثلثاء والاربعاء عطلة رسمية في البلاد، إلاّ أن التنقل لم يكن يقتصر على العمل والدراسة فحسب. فالوصول إلى السوق بدا أمراً في غاية الصعوبة، وطافت أسواق الخضر الشعبية مع أشياء طفت فوق المياه في الشوارع. قضى معظم الأهالي الليل في تجفيف منازلهم من المياه، وحوّلوا حمامات السباحة البلاستيكية الصغيرة إلى زوارق متنقلة لنقل أطفالهم من شارع إلى آخر، كما استخدموها في زيارة بعض المحلات المناطقية القريبة للحصول على الغذاء في عطلتهم الغارقة تلك. ولجأت عائلات أخرى إلى اعتماد طوّافات أخرى للتنقل ومغادرة منازلها إلى منازل أقارب آخرين لم تدخل المياه بيوتهم. أما الشباب فاستثمروا الموقف لالتقاط بعض الصور التذكارية مع الفيضانات التي قد لا تتكرر لأعوام لاحقة، فأقدم بعضهم على امساك صنارات صيد الأسماك في الشوارع الغارقة، ومن ثم عمدوا إلى نشرها وتبادلها على مواقع التواصل الاجتماعي فيما ابتكر آخرون أموراً أخرى كلصق صور أبطال فيلم «تايتانك» على السيارات العائمة في الماء. وأعلنت دائرة ماء بغداد، عبر القنوات الرسمية، قطع المياه عن المنازل لثلاثة أيام لتدارك الأمر، ولكي لا تسمح بضخ كميات إضافية من المياه، فضلاً عن مخاوفها من تسرب مياه المجاري الملوثة إلى مياه الشرب في العديد من المناطق في بغداد. ووصلت المياه إلى ارتفاع متر في بعض الأحياء، ودخلت الكثير من المنازل وأعاقت حركة المرور في شكل تام، وفي مدينة الصدر، شمال شرقي بغداد، حاصرت المياه المستشفى الرئيسي هناك وانهار أحد المنازل بشكل كامل وتسبب في قتل أربعة أشخاص، وغرق شخص آخر في حي نفق الشرطة وسط بغداد بعد دخوله في النفق المليء بالمياه وعدم تمكنه من الأفلات من سيارته بعد أن غمرتها المياه بشكل كامل، فيما انهارت منازل أخرى في وسط وجنوب العراق. وعجزت فرق الإنقاذ عن الوصول إلى أي مكان في بغداد، لنقل المصابين أو مساعدة أصحاب البيوت المنهارة فوزارة الصحة لا تملك أية وسيلة لذلك سوى سيارات الاسعاف التي لم تتمكن هي الأخرى من التنقل بسبب غزارة الأمطار في المناطق. وفي غياب خطط الطوارئ لمعالجة مثل هذه الحالات المفاجئة اعتمد الأهالي على بعضهم بعضاً في مواجهة فيضانات الأمطار من خلال تبادل الاتصالات لمعرفة خريطة الفيضانات والمناطق الأكثر تضرراً. ومثلما فعل الأهالي، ابتكر طلاب الجامعات جسوراً صغيرة من الطابوق وبعض المخلفات، للمرور منها إلى خارج الجامعات التي فاضت هي الأخرى بالمياه. هي المشاهد من فيضان بغداد الذي لم تشهد العاصمة له مثيلاً، دفعت الكثير من العراقيين إلى الرضا بالجفاف وقلة الأمطار على العيش في فزع متواصل، من غرق منازلهم أو انهيارها، بخاصة أنهم يدركون أن عملية إصلاح شبكات المجاري قد تحتاج إلى سنوات... وسنوات!