منذ عرض للمرة الأولى خلال دورة سابقة لمهرجان برلين السينمائي الدولي، اعتبر فيلم «الجنة الآن» فيلماً مختلفاً عن معظم ما كانت السينما الفلسطينية قد حققته حتى ذلك الحين. لقد بدا مختلفاً في موضوعه الجديد، وفي راهنيته المدهشة، كما بدا مختلفاً في ديناميكية لغته السينمائية، ومختلفاً في قدرة مخرجه على إدارة ممثليه بحرفية، وصولاً باختلافه حتى في ترجمة ردود الفعل التي يجتذبها. فهنا تحت دائرة التعاطف المسبق، يجد المتفرج نفسه امام عمل يجمع الدراما بالتشويق، السياسة بالكوميديا، الواقع بالتأمل الفكري. وكل هذا من حول موضوع يمس جوهر ما يثير اهتمام العالم اجمع: «موضوع الإرهاب» كما يطلق عليه في الغرب. ف «الجنة... الآن» اختار ان يطرق هذا الموضوع، مباشرة ومن اوسع ابوابه، من هو الانتحاري؟ كيف يصبح قنبلة متحركة، جاعلاً من جسده، سيارة «مفخخة»؟ لماذا يصبح انتحارياً، وليس من ناحية الدافع السياسي والديني فقط؟ كيف يجنّد؟ هل هو انسان من لحم ودم ام انه مجرد ماكينة قتل؟ ثم ما هي مشاعره الخاصة اذ يقدم على ما يقدم عليه؟ هذه الأسئلة التي من الواضح ان قلة من الناس تطرحها او تتجرأ على طرحها، جعل منها هاني ابو اسعد، مركز الصدارة في فيلم، كان عليه في نهاية الأمر ان يسير على حبل مشدود. إذ ان كل ما يمس هذا الموضوع يبدو - قبلياً - من المحظورات او المسكوت عنه. والمشي على الحبل المشدود، هو النتيجة المنطقية لرغبة قول ما لم يكن يقال. حيث ان الإنسان، في الانتحاري، يختفي عادة بين اثيرية نظرة تطهّره تماماً في أعين مؤيديه، وبين شيطنة هي نصيبه لدى ضحاياه او أعدائه - او حتى لدى رأي عام قد يكون محايداً، لكنه غير قادر على استساغة ما يعتبره «قتل الأبرياء المدنيين في سبيل اية قضية من القضايا، علماً أن من المعتاد ان يكون القسم الأكبر من ضحايا العمليات «الإرهابية-الانتحارية» من المدنيين -. ومن الواضح ان هاني ابو اسعد، اختار منذ قرر ان يحقق فيلمه، ألا تكون نظرته، لا هذه ولا تلك. اشتغل على التفاصيل الصغيرة. بنى حبكة درامية ذات خطّ تشويقي. وأتى بممثلين متميزين لا تنقصهم الكاريزما، ليقدم من خلال هذا كله فيلماً يمكن، في قشرته الأولى التعامل معه على انه فيلم مغامرات ذو مواقف تقترب احياناً من الكوميديا اللطيفة، وتغوص غالباً في لغة تبدو ادنى الى اللغة الوثائقية منها الى اللغة الروائية المعتادة. وهذا الأمر الأخير ليس جديداً على هاني ابو اسعد، اذ من المعروف ان هذا المخرج الفلسطيني الذي بدأ عمله السينمائي كمنتج لأفلام الآخرين، قدم في فيلمه السابق والأول كمخرج، «عرس رنا» ومن خلال بحث الشخصية المحورية في الفيلم، الصبية رنا عن خطيبها، تفاصيل الحياة اليومية في القدس. هذه المرة تنتقل كاميرا ابو اسعد الى نابلس... وبدل رنا لدينا خالد وسعيد، شابان فلسطينيان اصبحا فجأة متعطلين من العمل. وها هو استاذ المدرسة الموقر الذي هو في حقيقة أمره، احد قادة تنظيم اسلامي يمارس النضال من طريق تجنيد الانتحاريين وإرسالهم الى المدن الإسرائيلية، ها هو يختارهما للقيام بعملية انتحارية مزدوجة في تل ابيب. في البداية، تبدو حماسة الشابين كبيرة، ولا سيما خلال مرحلتي التجنيد والتدريب اللتين تصورهما كاميرا المخرج بقوة وثائقية دفعت كثراً الى التساؤل: «من اين له هذا؟»... ولكن سرعان ما تبدأ الشكوك تساور احدهما فيما يبقى الآخر على حماسته، قبل ان تحدث نكسة لديهما في الاندفاع لاحقاً، وهي النكسة التي تنجم اساساً عن لحظة وعي متسائلة عما يفعلانه بالضبط، طالما ان «سحر اللعبة» في مراحلها الأولى قد زال وها هما امام واقع ما كانا يحسبانه في شكل جدي اول الأمر: واقع انهما مقبلان على القتل والانتحار في وقت واحد! المهم الآن ان الشابين، وقبل لحظة الوعي تلك، يتلقيان كل ضروب التمهيد والإعداد النفسي واللوجستي والديني متقبلين، بتفاوت في المشاعر، فكرة ان الساعات الأربع والعشرين المقبلة هي آخر ما سيعيشان. ان الفيلم، إذاً، يرصد تلك الساعات، حيث مطلوب منهما ألا يخبرا احداً بالطبع، ولا حتى عائلتيهما بما هما مقبلان عليه... وهما، سواء أأدركا ذلك أم لم يدركاه، خاضعان طوال تلك الساعات الحادة الى رقابة صارمة. وإذ يحين وقت التوجه الى تل ابيب، لتنفيذ العملية، حيث سيكون في انتظارهما متواطئ يعمل بالأجرة مع التنظيم - وهو اليهودي الوحيد في الفيلم -، تركّب القنابل على جسدي سعيد وخالد وقد أقفلت في شكل معقد يجعل من المستحيل على أي كان فكّها... في اختصار، «لا يفكّها إلا الذي ركّبها» كما سيقال لهما!... ومن البديهي ان هذا ما يجعل مفعولها حتمياً... على الأقل بالنسبة الى الانتحاريين. وفي اللحظة المخطط لها من جانب زعيم التنظيم، ومن بعد مشاهد طقوس مرعبة حقاً تنتهي بمشهد رمزي يتناول فيه الشابان طعام العشاء، مع 12 من أفراد التنظيم (مشهد العشاء الأخير للسيد المسيح ليس بعيداً هنا)... ينطلقان ويعبران حاجز الشريط الفاصل بين الضفة الغربية وإسرائيل. ولكنهما ما إن يعبرا أمتاراً قليلة متنكرين في ثياب عرس للتمويه وقد حلقا ذقنيهما، حتى يجدا نفسيهما في مواجهة دورية اسرائيلية، فيهربان ليتفرقا منذ تلك اللحظة كل في طريق. وإذ يعود خالد الى الخلية، يصيح زعيم التنظيم بالسؤال عما اذا لم يكن سعيد هو الخائن الذي جعل الدورية الاسرائيلية تصل. ومنذ تلك اللحظة، يتخذ الفيلم خطوطاً عدة أبدع هاني أبو اسعد في التقاطها والسير بها حتى نهاية الفيلم المفتوحة: خطّ السجال مع الفتاة الفلسطينية - المغربية التربية - سهى، حول جدوى هذا كله. خطّ البحث عن سعيد. خط التبدّل الذي يحصل لدى خالد واكتشافه برودة الزعامات في التعامل مع المناضلين وصولاً الى اتهام هؤلاء سعيداً بالخيانة، لأن أباه أصلاً كان «متعاوناً». وخطّ محاولات سعيد إكمال مهمته، ليس عن اقتناع تام وإنما عن يأس، وربما لدوافع عميقة لديه، هو الذي كانت نظراته منذ اختير للمهمة تقول كل ذلك التمزق الذي يعيشه المواطن العربي العادي البسيط تجاه ذلك النوع من العمليات وجدواها... طبعاً، لن نواصل الحديث عن الفيلم أكثر من هذا... فقط نشير مرة أخرى الى اننا هنا إزاء فيلم فلسطيني لافت، اعتبر وحده تقريباً «الحضور العربي» في مهرجان برلين يوم عرض فيه قبل ان يرشح لاحقاً لنيل جائزة افضل فيلم اجنبي في مباريات «الأوسكار» الأميركية... وقد أمّن «الجنة الآن» خلال المرحلة التالية لعرضه الأول ثم عروضه التجارية وفي الكثير من المهرجانات العالمية، الحديث عن حضور ما، ومتميز، لسينما عربية متميزة. وإذ دافع هاني أبو أسعد عن بروز الأبعاد الفنية لفيلم كان من المفترض ان يطغى عليه الحديث السياسي والأيديولوجي وسجالاتهما، قال على اي حال انه انما حقق هذا الفيلم لكي يفتح سجالاً «حول أمر لا يساجل أحد في شأنه». وقال انه صور فيلمه في نابلس، أي في الموقع الساخن للأحداث خلال فترة عصيبة، ما اضطره احياناً الى استكمال تصوير بعض المشاهد في الناصرة. أما ممثلو الفيلم، وأبرزهم قيس ناشف (سعيد) وعلي سليمان (خالد) الآتيان من التمثيل المسرحي، فقد لفتوا الأنظار حقاً ولا سيما منهم الممثلة المعروفة في فرنسا وأوروبا، لبنى الزبال (سهى) المغربية الأصل الحاضرة في السينما الفرنسية (ولا سيما في افلام اندريه تيشينه) وهيام عباس الفلسطينية المقيمة في فرنسا. مهما يكن، فإن فيلم «الجنة... الآن» ثاني أعمال هاني أبو أسعد اتى فيلماً مميزاً وجديداً... فيلماً جمع المهارة التقنية بالصواب السياسي... من دون أن يزعم إيجاد الاجوبة لكل الاسئلة المطروحة. ويومها اكد هاني أبو أسعد هذا قائلاً انه يكفيه طرح الاسئلة التي لا يريد أحد أن يطرحها حقاً... الاسئلة التي آن الأوان لكي تطرح من دون أفكار مسبقة وذاتية مفرطة... لأن هذين سيقطّعان الحبل المشدود إرباً في نهاية الأمر. [email protected]