شَتّان بين المكانة المرموقة التي وصلت اليها «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) صيف العام 2012، والانحدار المُخجل الذي بَلغته في خريف العام ذاته، والذي صادف الذكرى التسعين لانطلاق هذه المؤسسة الإعلامية العريقة. فبعدما حققت تغطيات «بي بي سي» للألعاب الأولمبية في لندن أرقاماً قياسية في المشاهدة لم تبلغها أي تغطيات أخرى منذ بدء إحصائيات المشاهدة (جذبت حفلة الافتتاح 27.3 مليوناً في بريطانيا متخطية تغطيات تلفزيونية لأحداث مهمة، منها: الذكرى الخمسون لتتويج الملكة إليزابيث الثانية قبل عقد تقريباً، وزواج الأمير وليام)، وقعت المؤسسة الإعلامية في أخطاء مهنية فادحة، جعلها تواجه الأزمة الأكبر منذ تاريخ انطلاقتها في 1922. ويعود تاريخ فضيحة «بي بي سي» الأولى إلى بداية عام 2012، عندما ألغى برنامج «نيوزنايت» الإخباري فقرة عن سيرة المذيع جيمي سافيل المثير للجدل، في خطوة يقال إنها تَمت وقتها حتى لا تعكر الاحتفال بذكرى المذيع الذي كان رحل عن العالم قبل أشهر قليلة فقط. وعندما عرضت قناة تلفزيونية بريطانية منافسة (آي تي في) برنامجاً تلفزيونياً في وقت متأخر من هذا العام، يكشف ومن دون مورابة اتهامات ضد جيمي سافيل باعتداءات جنسية على عشرات من الفتيات المراهقات أثناء عمله في «بي بي سي» في سبعينات القرن العشرين (بعضها تم في استوديوات «بي بي سي»)، بدا أن «هيئة الإذاعة البريطانية» متورطة في شكل ما في تلك الممارسات، بمحاولتها التغطية على أفعال ذلك المذيع، وهو الأمر الذي دعمه التَخّبط الكبير لمديرين من «بي بي سي» لم يُحسنوا أبدا التعامل مع الأزمة، إذ لم يملكوا الشجاعة، ليقدموا الحقائق كما هي، وقاوموا لأشهر الانتقادات الشرسة لأدائهم، بدفع التهم عن أنفسهم وعن المؤسسة تحت شتى الذرائع. وقبل نهاية هذه السنة، فجّر برنامج «نيوزنايت» ذاته الأزمة الثانية ل «بي بي سي» لهذا العام، وهذه المرة عندما أوحى في إحدى حلقاته بأن سياسياً بريطانياً معروفاً متورط باعتداءات جنسية على أطفال (لم يذكروا اسم السياسي وقتها، لكن مواقع الإنترنت نشرت الاسم معتمدة على المعلومات التي قَدّمها البرنامج). وإذا كان تعامل «بي بي سي» مع هذه الأزمة أفضل من تعاملها مع سابقتها (قدم البرنامج اعتذاراً علنياً للسياسي البريطاني، كما دفعت الفضيحة مدير المؤسسة البريطانية لتقديم استقالته، فيما حصل السياسي على تعويض مالي كبير من «بي بي سي»)، فإن الأثر الذي تركته هيمن على برامج الأخبار في المؤسسة لفترة طويلة. وكانت أزمة «بي بي سي» عموماً، ومشاكل برنامج «نيوزنايت» خصوصاً، مناسبة لتقويم برامج الأخبار التلفزيونية التحقيقية، بخاصة أن بعض العاملين السابقين في البرنامج المذكور، برروا الأخطاء بضعف الإمكانات المادية، فصحافيو البرنامج والعاملون به لا يملكون، بسبب تقليص إمكانات البرنامج، الوقت الكافي للتحقيق في القصص الإخبارية التي يتناولونها. لكنّ هذه الحقائق ليست جديدة، فتكلفة البرامج الإخبارية التحقيقية في مقابل قلة عدد متابعيها، تُشكّل منذ سنوات إحدى المشاكل الكبيرة لكل مدير جديد لأي قناة تلفزيونية جادة. وإذا كانت نهاية العام الجاري حملت بعض الأخبار المفرحة ل «بي بي سي» مع ظهور نتائج التحقيق المستقل بقضية تعامل الشبكة البريطانية مع أزمة جيمي سافيل، والذي أشرف عليه الإعلامي البريطاني المعروف نيك بولارد، بعدما برأ التقرير العاملين في «بي بي سي» من أي سوء نية أو تورط في أفعال المذيع الراحل، غير أن التقرير الذي نشر في الثامن عشر من الشهر الجاري، وصف أداء «بي بي سي» بأنه كان فوضوياً ومرتبكاً. كما أن الأخيرة ستحتاج إلى سنوات طويلة حتى تستعيد ثقة البريطانيين ومتابعي المؤسسة حول العالم. وهكذا، بعدما كانت «بي بي سي» تتصدر المصادر الأخرى لناحية ثقة المتابعين بقنواتها الإعلامية، كشف بحث أجرته مؤسسة « conquest» البريطانية، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أن 49 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع أصبحوا يملكون ثقة أقل بالمؤسسة الإعلامية البريطانية بسبب أدائها في قضية جيمي سافيل.