شهدت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) تغييرات متسارعة خلال الساعات الماضية أطاحت عدداً من كبار مسؤوليها على خلفية تحقيقات في تقصير مهني تسبب في بث تقارير غير دقيقة أو منع بث تقارير أخرى تبيّن أنها كانت صحيحة. وأدى هذا التقصير والاستقالات التي أعقبته إلى إثارة مخاوف من اهتزاز ثقة المشاهدين بالمحطة الأوسع انتشاراً في بريطانيا وإحدى أكثر وسائل الإعلام صدقية على الصعيد العالمي. وبدأت كرّة الاستقالات بإعلان المدير العام ل «بي بي سي» جورج انتويسل تركه منصبه بعد 54 يوماً من تعيينه فيه خلفاً لمارك تومسون الذي انتقل إلى الولاياتالمتحدة لتولي منصب الرئيس التنفيذي لصحيفة «نيويورك تايمز». واستقال انتويسل مرغماً، كما يبدو، إذ أعلن قراره هذا، مساء السبت الماضي بعدما كان أكد خلال النهار أنه لن يتخلّى عن موقعه على رغم إدانته تقريراً خاطئاً بثّه البرنامج الإخباري المرموق «نيوزنايت» على محطة «بي بي سي 2» وتناول موضوع الاستغلال الجنسي لأطفال في شمال مقاطعة ويلز في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وأثار تقرير «نيوزنايت» ضجة بعدما بث مقابلة مع ستيف ميشام (49 سنة) الذي تحدث عن تورط شخصية بارزة في حزب المحافظين بالاعتداء عليه جنسياً مراراً عندما كان ما زال طفلاً في مأوى في ويلز في الثمانينات. وعلى رغم أن تقرير «نيوزنايت» الذي أُعدّ بالتعاون مع «مكتب التحقيقات الصحافي» لم يسمّ المسؤول الحزبي المعني، إلا أن كتاباً على شبكة الإنترنت سرعان ما روّجوا اسم اللورد ماكلباين الذي كان مسؤولاً مالياً كبيراً في حزب المحافظين تحت قيادة مارغريت ثاتشر. لكن ماكلباين سارع إلى نفي الاتهامات من مقر إقامته في إيطاليا، لافتاً إلى أن شهادة ميشام عن الشخص الذي أساء إليه جنسياً تتحدث عن امتلاكه سيارة «رولز رويس» وبطاقة متجر «هارودز» ووضعه عطوراً ونزوله في فندق معيّن في مقاطعة ويلز، وهي كلها أمور لا تنطبق عليه (لم يمتلك يوماً «رولز رويس»، ولا بطاقة «هارودز»، ولم يضع يوماً عطوراً، ولم يزر الفندق المذكور طوال حياته). والأدهى من ذلك، كما تبيّن من نفي ماكلباين ومحاميه، أن «بي بي سي» لم تسع إلى الاتصال به لاستيضاح صحة المزاعم ضده. وأقر ميشام عندما شاهد صورته بأن اللورد ليس من استغله جنسياً خلال طفولته. وعلى رغم أن مدير «بي بي سي» انتسويل دان بشدة غياب الدقة في تقرير «نيوز نايت» (عوقب البرنامج بتجميد كل التحقيقات التي يعمل عليها)، إلا أن ذلك لم يشفع له بالبقاء في منصبه على رغم مرور أقل من شهرين فقط على تعيينه، فاضطر إلى الاستقالة بعدما وافقت «بي بي سي» على منحه تعويضاً سنة كاملة، ما يعني حصوله على تعويض إجمالي يبلغ 1.3 مليون جنيه استرليني. لكن قيمة التعويض أثارت غضب حكومة ديفيد كاميرون الذي قال إنه سيترك ل«ضمير» انتسويل ما إذا كان يسمح له بقبول تلقي هذا المبلغ الذي تدفعه «بي بي سي» من أموال دافعي الضرائب الذين يمولون موازنتها. ودخول كاميرون على هذا الخط سيجعل من الصعب جداً على انتسويل قبول التعويض كله، على رغم أن «بي بي سي» تُجادل بأن ذلك من حقه قانونياً نظراً إلى الفترة الطويلة التي عمل فيها في المحطة قبل توليه منصب المدير العام. وفي حين أن استقالة انتسويل جاءت على خلفية الخطأ المهني في البرنامج المخصص لإساءة الأطفال جنسياً في ويلز، إلا أن «بي بي سي» فقدت أمس إثنين آخرين من كبار مسؤوليها على خلفية خطأ آخر في «نيوزنايت» يتعلق بالفنان الراحل السير جيمي سافيل. وأعلنت «بي بي سي» أن مديرة قسم الأخبار هيلين بودين ونائبها ستيف ميتشل «تنحيا جانباً» ريثما تقوم لجنة تحقيق يرأسها الصحافي من محطة «سكاي» نيك بولارد بالنظر في الخطأ الذي قامت به هيئة الإذاعة البريطانية في شأن السير سافيل. ويدور هذا الخطأ حول السبب الذي منع «نيوزنايت» في تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي من بث تحقيق يتناول مزاعم عن تورط سافيل خلال عمله في «بي بي سي» في اعتداءات جنسية متكررة على فتيات صغيرات خلال الثمانينات. وعوضاً من بث المقابلات مع النساء اللواتي زعمن أن سافيل اعتدى عليهن جنسياً عندما كن طفلات، بثت «بي بي سي» ثلاثة برامج تشيد بالفكاهي الراحل. واكتُشف أمر منع بث التحقيق بعدما بثت محطة «آي تي في» المنافسة مقابلات مع النساء اللواتي زعمن اعتداء سافيل عليهن. وفتحت الشرطة البريطانية قبل أيام «تحقيقاً جنائياً» في المزاعم حول سافيل بعدما تقدمت أكثر من 300 امرأة بشكاوى ضده بتهمة الاستغلال الجنسي على مدى عقود من عمله الفني. وجاءت استقالة انتسويل و»تنحي» بودين وميتشل وقبلهما مدير تحرير «نيوز نايت» بيتر ريبون في ظل شكاوى من داخل «بي بي سي» لتطرح علامات استفهام حول من يتحمل المسؤولية عن اهتزاز الثقة بالشبكة التلفزيونية العريقة. وفي حين يقول بعض المنتقدين إن المسؤولية تقع على الإدارة التي تزيد رواتب المديرين وتقلّص مخصصات برامج التحقيقات، يقول آخرون إن المحطة ككل تحتاج إلى إعادة هيكلة لتحديد تراتبية المسؤوليات فيها لأنها في شكلها الحالي غير واضحة نظراً إلى ضخامة مؤسساتها التي تنقسم إلى عشرات الإذاعات والتلفزيونات ومواقع الإنترنت والتي يعمل فيها آلاف الموظفين.