باتت مظاهر العنف بمختلف مستوياته تحيط بحياتنا من كل الجهات، بداية بعنف الأفكار والآيديولوجيات والسلطات والمجتمعات، وعنف العادات والتقاليد التي تتحكم بكل شيء فينا، بما في ذلك طريقتنا في الملبس! وليس نهاية بالعنف الذي نمارسه على ذواتنا وهوياتنا، فتحولنا جميعاً إلى ممارسي وضحايا عنف، ولو بدرجات متفاوتة، غير أن عنف المثقفين هو الأكثر خطورة، لا من حيث درجته أو مستوياته، وإنما لأن أصحابه هم الأكثر انفتاحاً وتقبلاً للاختلاف، وبعداً عن التعصب، فهم يؤمنون بالتعدد الفكري، وقيم احترام الرأي وحريته، والتسامح وتقبل الآخر والاختلاف معه، وغير ذلك من الأفكار الجميلة! لكن ما يدفع إلى التساؤل والمكاشفة المؤلمة، هل مثقفونا ونخبنا الفكرية قبل السياسيين يتمثلون حقاً هذه الأفكار؟ قبل ثورات الربيع العربي ما انفك كثير من المثقفين العرب الذين شكل بعضهم جماعات «نخبوية» أو «الآنتلغنتسيا»، كما يصفهم البعض أحياناً، ينادون بتطبيق الأفكار الليبرالية والديموقراطية في العالم العربي سبيلاً للتقدم الحضاري، ويتوجسون من الجماعات «المغايرة» من التيارات المفارقة آيديولوجياً كالراديكاليين والإسلاميين و «السلفيين»، ويرسمون لهم صورة نمطية مكررة، بوصفهم متطرفين لا يؤمنون بثقافة الآخر أو التعايش معه، ويرفضون مبادئ المشاركة الاجتماعية والسياسية، وذلك ما عبر عنه الإنتاج الثقافي على نحو ملفت في العقدين الأخيرين، الإنتاج الأدبي الدرامي والإعلامي الذي ظل ينمّط هذه الصورة السلبية في تقاطب واضح مع صورة المثقف الإيجابية، ولكن اليوم في زمن الثورة العربية، زمن الاختبار الحقيقي للآيديولوجيات والأفكار الذي لا يضع السياسيين والاقتصاديين وحدهم في موضع المساءلة وفي مأزق الاختبار، وإنما يضع المثقفين أنفسهم في اختبار حقيقي، وأية رؤية استشرافية للمشهد القادم توحي بعنف ثقافي مفرط، ربما يمارسه المثقفون على خصومهم الذين حشروهم في مأزق اختبار آيديولوجياتهم وأفكارهم الليبرالية، وهنا تكمن المفارقة العجيبة، إذ تتبدل المواقع بفعل ما أفرزته تحولات المشهد السياسي وممارسته الديموقراطية في بعض أقطار الربيع العربي. وقد يعزل فيها بعض المثقفين أنفسهم عن واقعهم ومجتمعاتهم، فيستعيرون خطاب نفي وإقصاء تجاهها، ويرسمون لها صوراً وهمية، فلم يعد ذلك الآخر المفارق مجرد فكرة أو آيديولوجيا تمكن مطارحتها في بياض الكتابة أو تنميطها وشيطنتها في المتخيل الثقافي، وإنما مجتمع عربي يخوض معركته ضد أصنام الاستبداد السياسي والاجتماعي، الثقافي بعيداً عن النخب الثقافية! صحيح أن أكثر المثقفين العرب انحازوا إلى قيم الحرية والديموقراطية في ربيع الشعوب العربية، لكن جزءاً مهماً من نخبة الحداثة العربية لاذ بصمت عجيب في زمن فيه شرف الكلام أغلى من قناطير الذهب، فأصبح السكوت عنفاً مضمراً، وجماعة أخرى من المفكرين والأدباء