بدأ عرض الفيلم الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان «كان» الأخير في فرنسا بداية شهر آب (أغسطس). توقيت حرج، فمن سيكلف نفسه عناء الجلوس في دار السينما لمدة تزيد عن الثلاث ساعات في شهر الإجازة؟! لعلهم هؤلاء الذين يريدون الهرب من الأمطار التي استحْلت أن تعكّر جو الصيف على الفرنسيين، أو ربما أولئك الذين يفضلون العتمة على رمادية الجو الكئيبة، وقبل هذا وذاك قد يكونون من هؤلاء المغرمين بالسينما عموماً، وبسينما نوري بيلجي جيلان خصوصاً. تحضّرنا ل «سبات شتوي»: ثياب مريحة وزجاجة ماء وهاتف صامت يرينا الزمن... ثلاث ساعات وست عشرة دقيقة مرت أخيراً، لن نقول بسرعة، بل ببطء فيه شيء من المتعة. لم ننظر إلى الساعة سوى مرتين لا غير... لم يسعف الفيلم كثيراً نيله السعفة الذهبية، ولا اسم المخرج التركي المعتاد على نيل الجوائز في «كان» (جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن «أوزاك» 2003 وجائزة الإخراج عن «قرود ثلاثة» 2008، والجائزة الكبرى عن «حدث ذات مرة في الأناضول»2010)، فلم يصل عدد مرتاديه في فرنسا إلى المئة ألف بعد. ومقارنة بفيلم مثل «الماضي» للإيراني أصغر فرهادي الأقصر بساعة وخمس دقائق، يلزم «سبات شتوي» تسعين ألف مشاهد آخر ليقترب من ذلك الذي اكتفى العام الفائت بنيل بطلته جائزة التمثيل في «كان» أيضاً. ولكن متى كان عدد المشاهدين دليلاً على جودة فيلم ما؟ تشتّت نقدي المشكلة أن النقاد الفرنسيين لم يتّحدوا حول تقويمهم للفيلم الحائز الجائزة الأولى في مهرجانهم الوطني الأكبر. ولعل هذا ساهم مع طول الفيلم أيضاً في حرد كثيرين. تراوحت آراء النقاد بين منبهرين وصارخين «يا للعبقرية!» وقائلين إنه «فيلم نحمله معنا كي لا يتركنا أبداً» واعتباره «صدمة جمالية وأخلاقية» (تيليراما)، وأولئك الذين اتخذوا موقفاً شبه حيادي مكتفين بصفة الفيلم بأنه «لا رنان ولا مصاب بالتوحد» (الإكسبريس)، أو توجيه النقد اللاذع لفيلم فيه «الكثير من الثرثرة واللاتشويق»، والتعبير عن الانزعاج من هذا المؤلف السينمائي الذي «ينظر إلى نفسه يصور ويصور أناساً يستمعون إلى أنفسهم، وهم يتحدثون» (لوفيغارو). كما تناول البعض أسلوب المخرج التركي بنقد قاسٍ. فمجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» مثلاً كتبت أن الفيلم يشبه فيلماً لبرغمان وكل شيء ملعوب فيه سلفاً وأنه «ليس ثمة أدنى أمل بإيجاد أي أهمية للفيلم»! بينما وصفت صحيفة ليبراسيون الفيلم بأنه «طموح ومعقد التركيب وثمة سيطرة للمخرج عليه وتحكم متين»، ولكنه لا يخرج عن كونه «فيلماً أكاديمياً ذكياً». وجاء نقد جريدة لوموند ليزيد الطين بلة، فبرأيها أن «الفيلم يثير افتتاناً بقدر ما يثير إحباطاً»! الافتتان آتٍ من جمالية المكان وكمال الكادر ودقة نظر جيلان، ولكن الإحباط يأتي من «صعوبة أن تجد النفس ذاتها فيه كما في صعوبة تحديد شخصياته الغامضة». ازدواجية المثقف يتناول «سبات شتوي» شخصية مثقف مسرحي متقاعد حديثاً، وعلاقاته مع الآخرين. الرجل اختار الانزواء بعيداً من العاصمة في منطقة كابادوس الساحرة في الأناضول (مسرح جيلان المفضل)، ليدير مع زوجته الشابة وأخته المطلقة نزلاً صغيراً يستقبل فيه السياح. إنهم حبيسو هذا المكان فهؤلاء نادرون في الشتاء حيث الثلوج تغطي كل شيء. وحين يقلّ العمل يبدأ الكل في البحث عن انشغال ما. فهل ثمة ما يشكّل متعة أكثر من النظر في الذات وفي ذات الآخرين؟ انشغال يقود الثلاثي إلى التمزق، لا سيما حين تكون الزوجة مبتعدة عاطفياً من زوجها، والأخت تعاني من طلاقها وتشكو تعامل أخيها الفكري والأخلاقي معها ومع الآخرين. كأن الفيلم مقاطع، يبدي أولها علاقة آيدن مع مستأجريه وعماله، ثم مع أخته، وتالياً مع زوجته وأخيراً مع صديق قديم. في كل مرحلة ينكشف تدريجاً القناع الذي يلبسه هذا الرجل ويحاول إقناع نفسه والآخرين به. قناع يغطي حقيقته كرجل أناني متغطرس مسيطر مزدر. يعتمد السيناريو الحوارات الطويلة بين الشخصيات كوسيلة أساسية للكشف، إلا في بعض المواقف الفاضحة التي بينت فشل آيدن بالإيحاء بما يغاير المضمر. مثلاً حين يوحي كلام بأنّه غير مهتم بتقبيل يده من جانب طفل أجبر على القدوم للاعتذار منه لأنه كسر زجاج سيارته قصداً، فيما آيدن يمد يده بكل بساطة في وجه الطفل. مواقف تبدي ازدواجية الفرد كما يعرف هذا المخرج المتميز أن يظهره جيداً. شخصية هذا المثقف تمكنت من إقناع المشاهد في البداية بحسن نواياها وبساطتها وبعدها عن الجدل والغطرسة، فهذا الكاتب الذي يريد كتابة تاريخ المسرح التركي وفي انتظار ذلك يكتب في صحيفة محلية صغيرة (هنا أيضاً يحاول أن يثبت تواضعه) بدا متواضعاً مسايراً متعاطفاً مع مستأجريه العاجزين عن دفع الإيجار (أهل الطفل)، محاوراً متفرغاً لأخته حين تريد... لكن كل ذلك لم يكن سوى قناع كاذب جاء الكشف عنه مستعاراً بكل وضوح من أجواء وعوالم قصص الروسي العظيم تشيخوف والمخرج برغمان وضمن جماليات مشهدية جعلت من الفيلم تحفة فنية... لكن كثيرة كثيرة الثرثرة! فالمخرج يبدو أنه سها عن «أهمية التقطيع كوسيلة رئيسة في البناء السينمائي» كما كتب ناقد فرنسي.