قال محمد مرسي لرجب طيب أردوغان: «من غير اللائق أن يُصوّر السلاطين العثمانيون بهذه الصورة داخل قصور فارهة يتلاعب بهم حريمهم وأبناؤهم، والتاريخ العثماني جزء من تاريخ الأمة الإسلامية الذي يعتز به المسلمون جميعاً». لا شك في أن ملاحظة الرئيس مرسي للرئيس اردوغان تنبع من ايمان راسخ بوجود «عصر ذهبي» أول؛ هو أقرب ما يكون الى يوتوبيا ارضية؛ أو «عصر بطولي» جسّدته سلسلة من الخلفاء والسلاطين والحكام العادلين. وهذا التاريخ هو تاريخ مجيد، طاهر، ناصع البياض و «مقدس». وهذا التاريخ هو سردية دينية؛ رومانسية محمولة على أجنحة الميتافيزيقيا. وكان طبيعياً أن يذهب الرئيس اردوغان الى حدود الغضب من هذا المسلسل الذي يشوّه سيرة «الغازي العظيم» الذي «قضى ثلاثين عاماً على ظهر الخيل» يحارب ليُخضع الممالك والبلدان والأمصار لسيطرة الصولجان العثماني. أن يكون التأريخ مسرحاً للاشتباك السياسي بين قوى تعكف على صناعة المستقبل هو أيضاً شيء طبيعي. فتاريخ العالم «هو محكمة تُصدر أحكاماً» على ما كان هيغل يرى. وعلى رغم أن المسلسل لا يعدو أن يكون عملاً درامياً خيالياً، فإن الرئيس مرسي وجد أن في وسع ذلك العمل الدرامي أن ينطوي على حكم سياسي سلبي حول «الخلافة الإسلامية» العثمانية. وحكم كهذا قد يضعف من الرصيد السياسي الحالي للتيارات الإسلامية التي تستثمر في الماضي أكثر مما تستثمر في المستقبل. وبدا الرئيس مرسي مهتماً بالوجه الأخلاقي للسلاطين أكثر من اهتمامه بوجههم السياسي. فما كان من «غير اللائق» هو تصوير «السلطان العاشر» كما لو كان دمية في يد امرأة؛ هي ألعوبة الشيطان. ولم تكن هناك إشارة الى سياسة أو تدبير لشأن من شؤون العامة جاء عليه السلطان واستنكره الرئيس، كالحرملك والجواري والعبيد، والخصيان والانكشارية. الحقيقة التاريخية تقول إن السلطان سليمان القانوني يختلف عن ذاك الذي قدّمه المسلسل. فهو لم يكن ألعوبة في يد محظيته روكسلانا فحسب، بل كان هذا وأكثر. فالرجل كان قد أعدم اثنين من إخوته وعمّه الأكبر وذريته عند بدء حكمه. ووصل به الأمر لاحقاً الى حد إعدام صديق عمره ووزيره الأعظم ابراهيم وكذلك إبنه البكر ووريث عرشه الأمير مصطفى الذي اشتبه في تآمره عليه. ولم يتوقف السلطان عند إعدام إبنه مصطفى وذريته وأخويه وعمّه الأكبر، بل ذهب أيضاً الى حد الضغط على شاه ايران من أجل إعدام إبنه الأصغر بايزيد وأبنائه الأربعة معه، وذلك بعد أن هرب هذا الأخير الى ايران خوفاً من مصير يشابه مصير أخيه مصطفى وذريته. لكن هذه المجازر العائلية الصغيرة لم تكن حدثاً شاذاً في تاريخ «الباب العالي»... بل كانت هي القاعدة التي ارتقت الى أن تكون قانوناً رسمياً مدوناً منذ عصر السلطان محمد الثاني الذي أصدر القانون نامه. والقانون نامه، «قانون قتل الإخوة»، لم يكن سوى ذلك القانون الذي أباح فيه محمد الثاني لذريته قتل من لا يرتقون الى العرش من أفراد الأسرة. ويقول المؤرخون إن هذا القانون، الذي يبيح قتل الإخوة، لم يفعل سوى أنه أضفى طابعاً شرعياً على ممارسة سارية. أما في ما يخص ترف السلاطين، فقد سجل الرحالة الأوروبيون اندهاشهم الكبير من مظاهر الترف والملابس الفاخرة والحلي والأحجار الكريمة والجياد المطهمة. وقد لا تتقبل النظرة المثالية التقديسية للتاريخ، التي ترى الأمور بمنظور الأبيض والأسود، حقيقة أن السلطان، على رغم جرائمه المقززة، كان يرى فيه المؤرخون الغربيون أيضاً رجلاً فقيهاً، نبيلاً، أميناً، موفياً بتعهداته، معروفاً بسموّه الأخلاقي الاستثنائي وحكمته. وهو الذي أرسى دعائم امبراطورية عالمية واسعة حازت كل «المنطقة الوسطى» للعالم القديم. وكانت امبراطوريته كوزموبوليتانية متعددة الأعراق والديانات ومتسامحة دينياً على نحو لافت. ويجب ألا يُستغرب أن كل السبعة الذين تقلدوا منصب «الصدر الأعظم»، الوزير الأول، كانوا من أصول مسيحية وغير تركية. ويجب ألا يُستغرب أن روكسلانا نفسها، زوجته ومحظيته الجميلة، والتي سيصبح إبنها سليم الثاني سلطاناً بعد أبيه، كانت إبنة لراهب ارثوذوكسي. فللتاريخ، كما قال ت. س. اليوت «ممرات ماكرة ودهاليز محتالة ومسائل مثيرة للجدل». لا تندرج «الحقبة العثمانية»، في الكلاسيكيات الإسلامية المعروفة، في إطار ما يسميه ميرسيا الياد ب «الزمان الكبير». فالفاصل التاريخي بين عصر السلف والحقبة العثمانية يتجاوز القرون السبعة. وفي خلال القرون السبعة تلك، شهدت الحضارة العربية الإسلامية انهيارات وانكسارات وتشرذمات ومجازر وحروباً لا تحصى بين المؤمنين أنفسهم، ناهيك عن تلك التي حدثت مع الآخرين. وليس هناك ما يستدعي، حتى من وجهة نظر معينة، أن يتم إلحاق الحقبة العثمانية ب «العصر الذهبي» المتخيل إلا إذا كانت هناك نية ورغبة في إلحاق الحاضر بتلك الحقبة أيضاً. * كاتب فلسطيني