يتحدّث الأريتريّ حجّي جابر في روايته «سمراويت» (دار الثقافة والإعلام، الشارقة)، عن انتماء المرء إلى أمكنة عاش فيها وأخرى لم يرها لكنّها تسكنه، وذلك من خلال شخصيّة عمر بطل روايته. هذا الشاب هو إريتريّ الأصل لكنّه ولد وعاش في جدّة، وتطبّع بطباع أهلها. ربطته علاقة وجدانيّة عميقة مع المدينة إلى حدّ أنّه يشعر بانتمائه الراسخ فيها. ولكن في بدايات المراهقة، يُصدَم ببعض الأمور التي تنبّهه إلى جدليّة الانتماء إلى وطنٍ لم يره وآخر يعيش فيه، وبقدر ما كان يجد نفسه منتمياً إلى جدّة، فإنّه يشعر بانتماء آخر إلى وطنه الأمّ إريتريا، وتكون الحكايات الكثيرة التي يسمعها من أمّه وجدّته عن حياتهم الماضية في أريتريا قبل أن يهجروها إبّان الاحتلال، ثمّ الحروب الطويلة التي استمرّت عقوداً، والتي شتّتت الناس وفتّتت الدولة وأجهضت الأحلام العريضة ببناء بلد قويّ في المستقبل. يقرّر عمر في لحظة توق إلى موطن آبائه وأجداده، أن يقوم برحلة واجبة إلى إريتيريا، يتهيّأ لها بكلّ جوارحه، يرسم خرائط أشواقه لأمكنة سمع عنها كثيراً، وظلّت تتردّد على مسامعه، من دون أن يكون قد زارها أو رآها، يحدّد الأماكن التي ينوي زيارتها واكتشافها، فيتواصل مع بعض أصدقائه هناك، ثمّ يخوض مغامرته بالعودة إلى الجذور. ككلّ مسافر، تتوارد إليه الكثير من الخواطر بينما هو في انتظار إقلاع الطائرة، أو أثناء التحليق، ليكون محلّقاً بدوره في عوالمه الداخليّة وفضاءاته النفسيّة، فيسترجع قصصاً غريبة ممتعة ظلّت تتكرّر بين أفراد أسرته، وتنتابه لحظات توجّس من رهبة اللقاء الأوّل بمدينة ينتمي إليها لكنّها لا تتعرّف إليه بداية إلاّ كغريب، ولا تسلّمه مقاليدها إلاّ بعد أن يذوب عشقاً فيها. يواجه بعض الصعاب التي قد يتعرّض لها السائح من شعور بالاغتراب بداية، والتعامل معه على أساس أنّه غريب عن المدينة، ثمّ لا يلبث أن يدخل عوالمها الحقيقيّة ليتغلغل في عمق أحيائها ومقاهيها ومعالمها. هكذا يستسلم لإغوائها وينقاد لجمالها ولا يتراجع أمام تمنّعها، لأنّه يوقن بأنّ الانتماء الحقيقيّ ضارب بجذوره في روحه ووجدانه. يتعرّف هناك إلى «سمراويت»، ابنة معارض أريتريّ بارز يعيش في الخارج، فتسحره بملاحتها وثقافتها وذكائها. يختلق عمر الذرائع للتقرّب منها، ويأخذ من رواية محمّد ناود، الروائيّ الأريتريّ الكبير أجمل بوّابة للدخول في عالمها، والتقدّم صوبها بثقة وأمل. سمراويت تكون الوجه الآخر لعمر، هي أيضاً تعيش حالة مثل حالته، تنتمي إلى بلدها وجدانيّاً، لكنّها تعيش مع أمّها الشاعرة اللبنانيّة وأبيها الكاتب المعارض في باريس، فنجدها هي أيضاً تعاني الشوق والتشتّت والشعور الضائع ما بين الغربة والأمان، كأنّها بانتمائها هذا تفتح جرحاً آخر في روح عمر. تتوطّد علاقتهما، يتّفقان مع سعيد وهو صديق لعمر، على زيارة بعض معالم البلد والتعرّف إليها عن كثب، وتكون تلك المواعيد فرصة سانحة لعمر بالتقرّب أكثر وأكثر من سمراويت، تربطهما علاقة عشق عاصف، تكون صورة لعلاقة كلّ منهما ببلده، فيكتشفان معاً جماليات هذا الوطن الذي يجمعهما. ويذكّر الراوي بأعلام بلده، كأنّه ينبّه إلى تقدّم دورها الحضاريّ والتاريخيّ في الحضارة البشريّة، لتدخل الرواية في إطار التعريف بعظمة البلد، ومن ذلك مثلاً حديثه عن زيارته لتمثال بوشكين الذي ينحدر من أصل إريتيريّ. إلاّ أنّه في المقابل لا يغضّ الطرف عن بعض الممارسات الشائنة التي تقترف بحقّ أبناء وطنه، سواء كان من جانب بعض المتنفّذين في النظام، أو بعض المتسلّقين. رحلة تاريخية يستقي الروائيّ من خبرته وعمله كصحافيّ وإعلاميّ في شبكة «الجزيرة» وقبلها في بعض الصحف المكتوبة، ليكتب فصولاً فيها من التقرير والتسجيل والتوثيق، إذ يسوح مع عمر وسمراويت في تاريخ إريتيريا وحضارتها، ويعرّج على الأماكن التي تكون شرارة لنكء الكثير من الجروح، واستذكار التضحيات الجسيمة، والتألّم للتنكّر الذي يُقابَل به بعض الثوّار والمضحّين، ممّن كان لهم الفضل في تحرير البلاد من ربقة المحتلّ. يرتاح عمر للدفء الذي يستقبله في وجوه الأريتريّين، إنّه يجد فيها خليطاً من معاناة ممتدّة حفرت عميقاً، وإباء خلّفه بحث حثيث عن الوطن طوال عقود. يستذكر الغزاة والمحتلّين الذين تعاقبوا على حكم البلد واستنزافه، عبر مروره بالمعالم التي خلّفوها وراءهم. يسير محمّلاً بأعباء الذاكرة ليسترجع تفاصيل حياته في جدّة، كأنّما هو يشعر بقلبه مشطوراً بين مدينتين، يقترب منهما بالحماسة نفسها وينتقدهما بالمحبّة نفسها والحرص عينه. ثمّ تكون الضربة القاصمة لقلبه، رفض والدة سمراويت تزويجها به، ووقوفها عقبة في طريق حبّهما الذي لم يكتمل، والذي لم يُوصد الراوي الباب أمام تحقّقه، بل أبقاه موارَباً عساه يتمكّن بعد عناد ودأب وإصرار على التمسّك بالأمل والوطن والحبّ المنشود. ثنائيات متكاملة تظلّ الرواية مسكونة بثنائيّات ترمز إلى تكامل الصورة، وإن كانت لا تتجاهل الفروقات والانقسامات العرقيّة والطائفيّة والدينيّة والحزبيّة، كما تتقاطع مع السيرة الذاتيّة التي تكون نموذجاً لسيَر الإريتيريّين في الأماكن التي استقرّوا فيها، وعاشوا فيها أفراحهم وأحزانهم، نجاحاتهم وخيباتهم. ثنائيّة الانتماء تتعدّى الشخصيّات إلى الوطن، فإريتيريا تعيش أكثر من انتماء، بين عمقها الحضاريّ العربيّ والإسلاميّ، وعمقها الإفريقيّ والمسيحيّ، ومدى تناغم وتحاور الانتماءات تارة وتصادمها تارة أخرى بناء على دفعٍ وتأليب من قبل بعض المستفيدين. ولا تقف الثنائيّة عند المضامين والرؤى والتأويلات وما وراء السطور، بل تحضر في الأسلوب وطريقة الدبج والتحبيك. فيبدو الروائيّ حريصاً على التنسيق بين انتماءيه اللذين يسكنانه ويكوّنان شخصيّته، «أريتريا- السعودية، جدة - أسمرا»، إذ يصدّر كلّ فصل بالتناوب، بمقاطع لأحد الشاعرين الأريتريّ محمد مدني والسعوديّ محمد الثبيتي، بحيث يكون اكتمال صورة الوطن من خلال التكامل بين الذات والآخر، وتداخلهما بطريقة شاعريّة.