تحمل أية مجموعة شعرية أولى إغراءها الخاص. نحن كمن «يتلصَص» على مخيلة جديدة تماماً، نحمل عشقنا للشعر ونأتي على أمل بأن نحظى بمتعة اكتشاف هذا الذي لم نعرفه من قبل. كلُ مجموعة أولى تحمل أيضاً مكانتها الخاصة في روح شاعرها، إذ هي نافذته الأولى التي يطلُ من خلالها على عالم تمتزج فيه الكلمة بالمخيلة لتصنع من ذلك المزيج قصائد قد لا تكون على قدر طموحه ورغبته، ولكنها مع ذلك تحمل على مدى الزمن تلك النكهة البالغة الخصوصية، والتي تجعلها «بكراً» يقاوم ويدوم في الذاكرة. الشاعرة اللبنانية أيلدا مزرعاني صدرت لها قبل أسابيع مجموعتها الأولى «غواية ملائكة وشياطين» (دار الفارابي - بيروت - 2012 ) وفيها جمع بين لونين من القصائد: وجدانيات تناوش العشق من زواياه «الصغيرة» والأكثر خصوصية واقتراباً من روح الأنثى العاشقة والمفتونة بالحياة، وأخرى تذهب نحو الموضوع العام، فتكتب للوطن وهمومه وقضاياه. في «غواية ملائكة وشياطين» رهان على بساطة التعبير وسلاسة الجملة الشعرية. هنا لا شيء من تركيب يبحث عن اختلاط أكثر من صوت، ولا بحث عن أفق آخر يمكن أن يقف خلف ظلال ما. القصيدة عند أيلدا مزرعاني «تسرد»، وتعثر على دفئها في ثنايا ذلك الدفق الوجداني الذي يأتي تماماً ومباشرة من روح الشاعرة، وبالذات من لحظة العشق القلقة، المتوترة والحالمة معاً: « تراكم غيمك في روحي، كالصدى، في حلم كواكب وعوالم أخرى. كأنني كنت ضوءاً يرتدي يديك» تبدو اللغة في قصائد مزرعاني ملتصقة تماماً بعالمها ومناخاتها الواقعية والشعرية، فهي لغة لا «تداور» بل تؤثث بيتها الفني من أدوات حاضرة وظاهرة لحدقة الشاعرة كما لروحها. وفي «غواية ملائكة وشياطين» يبدو النقيضان متآلفين، فبراءة الملائكة تمتزج في قسوة الشياطين، ليأتي المعنى والمتن الشعري وقد تآلفا مع بنائيات تحتمل تقشُف المشهد الذي ينجح رغم ذلك التقشُف» في الاستحواذ على حصَته من الجمالية الفنية. تبدو واضحة هنا «بكارة» البدايات التي تحملها المجموعة الأولى، فالقصيدة تنتبه للصورة ومن بعدها المشهد وللسَرد أيضاً من غير أن تنشغل كثيراً بسبك البنائية لجملها، وهي بهذا المعنى تلاحق «غزارة» المشاعر، وتفاصيل رؤى المخيلة العذبة، والمشحونة والتي ترقى بذلك كلّه إلى مصاف الشعر الدافئ والحميم: «تراكمت في روحي كإله ينتظر أن يعرف في نقاط الكلام. اقرأني ليكون الضوء اقرأني ليرتاح ورد المساء» يلفت في قصائد هذه المجموعة حضور الذات الفردية على نحو جميل، فالشاعرة تكتب من تلك المساحة الشغوفة بالرَغبة في البوح: هنا بالذات يأخذ البوح شكلاً آخر ومضامين مختلفة تبتعد عن فجاجة باتت شهيرة وتزدحم بها قصائد كثيرة هذه الأيام، حيث نقرأ بوحاً شفيفاً ومفعماً بدفء المشاعر الإنسانية الأنثوية. هو الحب في صوره الأكثر رقَة ولكن أيضاً الأكثر تفاعلاًَ مع حيوية الحياة وبساطتها والشاعرة تكتب ذلك كلَه بلغة شعرية تمتلك حضورها في روح القارئ من خلال اتساقها في مشاهد لها خطوطها التي تتجنب الغموض السلبي وتذهب بديلاً منه نحو مزيج من الوضوح والظلال الخفية. أيلدا مزرعاني في كتابها الشعري الأول «غواية ملائكة وشياطين» صوت شعري صاف يأتينا من جنوب لبنان حاملاً في خلفيته تجربة قصيدة النثر اللبنانية بتنوعها وغناها لتستفيد من كلّ ذلك وتكتب خصوصيتها.