في زيارتي الأخيرة لمركز «بومبيدو» الثقافي (باريس) سررت بمعرض استعادي ضخم لإبداعات المهندس المعماري العالمي ذي الجنسيات الثلاث، السويسرية، الفرنسية والأميركية، برنار تشومي، احتفالاً بعيد ميلاده السبعين. ناهيك عن الأهمية الدولية للمعماري تشومي، لماذا السرور على المستوى الشخصي؟ ذلك أنني عاصرت إنشاء مشروعه الكبير «بارك دي لا فيليت» على فترات من عام 1984 وحتى 1987. هو من أكبر المتنزهات في باريس ويضم «مدينة العلوم والصناعة» وثلاث قاعات للموسيقى ومبنى الكونسرفتوار. كذلك زرت مشروعه المهم الآخر «متحف الأكروبولس» في مدينة أثينا قبيل افتتاحه بأيام عام 2009، لمناسبة مشاركتي مع الوفد المصري في اجتماعات مؤتمر وزراء ثقافة دول المتوسط وقتها. بينهما تابعت، من بُعد، عدداً آخر من مشروعاته المتنوعة عبر العالم. للمرة الأولى، يقتفي معرض مجمل أعمال هذا المهندس المشهور. يفك شفرة ممارسته المعمارية بعرض عملية تحول المفهوم إلى مشروع، مميزاً مبدأين أساسيين في نشاط برنار تشومي، أولاً أن على العمارة أن ترتكن إلى أفكار ومفاهيم أكثر مما ترتكن إلى أشكال. ثانياً أنه لا انفصال بين الأحداث وبين حركات الأجساد التي تسكنها. فمن الضروري استكشاف أساليب جديدة للتصميم، وللرسم، من أجل بناء التصورات المعمارية التي تجسد هذه التفاعلات بين الفراغ وبين الحركة وبين الفعل. تم تقسيم المعرض موضوعياً وزمنياً لإضاءة ثلاثة محاور أساسية لأعمال برنار تشومي: المعماري المنظر، المعلم والبناء. تتضح هذه المحاور في المشاريع الأكثر دلالة عنده: من رسوماته الأولى «نصوص مانهاتن»، وهي ليست رسومات لمشاريع حقيقية، إنما رسمها تشومي في السبعينات من القرن الماضي كترجمة معمارية خاصة به للواقع، وحتى متحف «الأكروبول» في أثينا. ومن «بارك دي لا فيليت» في باريس إلى مدرسة «فرسنوي» للفنون في مدينة توركوي في شمال فرنسا. من مشروعه للمقر الرئيسي في جنيف لشركة «فاشرون كونستانتان»، وهي أقدم شركة ساعات في سويسرا، إلى مشروعاته العمرانية في نيويورك وبكين وحتى «سان دومينج» المستعمرة الفرنسية في جزر الكاريبي. لتتكامل إضاءة هذه المحاور، أي مجمل حياة المعماري العملية، قدم المعرض عدداً ضخماً من الرسومات والتصميمات والصور الفوتوغرافية والماكيتات وبرامج التلفزيون وأشرطة الفيديو والكتب والدراسات والمقالات عنه ومنه. وقد توقفت متأثراً أمام صورته في حديثين تلفزيونيين الأول في شبابه، والآخر في عامه السبعين. ما زال يحتفظ بوسامته وحيوية فكره مع علامات تقدم العمر. عادة يرتبط اسم تشومي باتجاه «التفكيكية» في العمارة مع المعماري الكبير بيتر أينزمان وآخرين. من العالم العربي هناك اسم واحد يرتبط بهم هو اسم المعمارية العراقية العالمية زها حديد. لكن تشومي، في تقديري، هو أكبر من الارتباط باتجاه معماري واحد. هذا يؤكده عملياً تنوع تصميمات مشروعاته. فهو نجح في أن يخلق لنفسه اتجاهه ومدرسته الخاصة. من أهم الأسباب وراء ذلك أنه حرص من البداية على دخول عالم الفكر بمعناه الواسع بما فيه الفلسفة. لذا، ارتبط مبكراً بمفكرين وفلاسفة مثل رولان بارت وميشيل فوكو وجاك ديريدا وغيرهم. من هنا، زرع لنفسه أرضية خصبة للتنوع وثراء الإبداع. مما يثبت جدارة تشومي وخصوصيته أن معظم مشروعاته التي تم تنفيذها عبر العالم جاءت نتيجة فوزه في مسابقات دولية. وها هو المعرض الاستعادي الضخم في مركز «بومبيدو» يضع فكر تشومي المعماري كله أمامنا متكاملاً منذ بداياته، والذي ركزه كتالوغ المعرض الذي استعنت به هنا. في بداية أبحاثه، طرح برنار تشومي على نفسه السؤال المعرفي: ما العمارة؟ هل هي حقاً، كما قال المعماري الأشهر لو كوربيزيه السويسري الفرنسي أيضاً «اللعبة العلمية، الصحيحة والرائعة للأحجام تحت الضوء»؟ على العكس، فكر تشومي أن العمارة الحقيقية هي في مكان آخر، كثيراً ما يتم استبعاده من تعريفاتها، هو واقعية التكوينات والحياة الاجتماعية. أصر على أنه لا عمارة من دون حركة، من دون حدث، من دون أنشطة داخل المباني. للتغلب على الأفكار الخاطئة، نظر تشومي إلى مناطق أخرى بخاصة الفن، السينما والأدب. أدرك أنه من المهم إضافة العناصر المفتقدة من الحركة والفعل إلى كل ما له علاقة بالتصميم المعماري، حتى في شرح وجهات نظره، لتسجيل حيوية الأجساد والحيلولة دون التصوير الجامد للعمارة. ابتكر تشومي طرقاً جديدة للرسم من بنية متسلسلة تربط الحدث والفضاء أو المساحة والحركة. استخدم هذه الطرق في بياناته المعمارية الأولى التي نجد نتائجها في سلسلة رسوماته «نصوص مانهاتن». في مشروعه «بارك دي لا فيليت» استخدم شبكة جاهزة مصنوعة من خطوط ونقاط. السؤال عن العلاقة بين فضاء معماري وبين الأحداث التي تنتج فيه هو بالنسبة إلى تشومي أسبق من سؤال التعبير عن شكل. بعيداً من «التاريخانية» التي كانت مزدهرة في الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، تابع تشومي عبر كثير من المسابقات الكبيرة بحوثه في فكرة الاستخدام أو المنهج. حدد ثلاث علاقات ممكنة بين الفراغ وبين استخدامه: التبادلية عندما يكون الفراغ موظفاً في شكل تام، الصراع عندما يكون الفراغ قليل الملاءمة في شكل متعمد للاستخدام المتوقع، اللامبالاة عندما يكون الفراغ قليل الاستيعاب للأنشطة الشديدة التنوع. بدلاً من الاكتفاء بترجمة احتياجات المستخدم، يستطيع المعماري أيضاً أن يقترح استخدامات غير متوقعة. هكذا، استشكف تشومي استراتيجيات معمارية مختلفة وعرضها مثل لقطات الفيلم، تصور الطبيعة المتعددة والتي كثيراً ما تكون متصارعة للمدينة المعاصرة. هذا نجده في مشروعات: فريسنوي، مكتبة فرنسا الوطنية الذي لم ينفذ ومسرح طوكيو الجديد. فكرة الواجهة هي واحدة من أبرز الأفكار التي شغلت تشومي. هذا السطح المستوى العمودي، المتعارض تقليدياً مع السقف، ينقل كل تقاليد التكوين الرسمي عبر تاريخ العمارة. اقترح تشومي في نهاية الثمانينات استبدال كلمة واجهة بكلمة مظروف (مثل مظروف البريد) يصاحبها «سهم التوجيه»، وذلك للدلالة على وظيفتين من الوظائف الأكثر أهمية للعمارة: تسكين الحركة وتعويمها في الفضاء. تستكشف مشاريع تشومي في «زينيت» (المسرح الضخم) في مدينتي روان وليموغ الفرنسيتين، والمقر الرئيسي لمصنع «فاشرون كونستانتان» للساعات في جنيف مفاهيم مختلفة للواجهة (المظروف) وتعبيراتها من طريق خامات مختلفة. قال تشومي: «العمارة هي تجسيد المفهوم». تختلف رسومات هذه المشاريع عن سابقاتها قبل ظهور الكمبيوتر الذي عدَّل في شكل ملحوظ من طرق الرسم والعرض. كان تشومي معادياً لنظرية «السياق»، وهي التي تنظر إلى العمل داخل سياقه. مع ذلك، أصر على أنه لا توجد عمارة من دون السياق الذي يصاحبها أو الذي ينتجها. مثلما عرض الفنان التشكيلي السوريالي مارسيل دو شامب منذ قرن حاملة زجاج في متحف، فتم النظر إليها على الفور على أنها عمل فني! وبالتالي، في العمارة، يمكن أن نضع سياقاً لمفهوم (نُسيِّق المفهوم إن صح التعبير) أو، بالعكس، نضع مفهوماً لسياق (نمفهم السياق إن صح التعبير). هكذا، فعل تشومي في مشروعه لمتحف «الأكروبول»، وفي مبنيين متشابهين في المفهوم والاستخدام، على رغم اختلاف مكانيهما: أحدهما في «مارن لا فالي» في فرنسا، والآخر في ميامي في ولاية فلوريدا الأميركية. أي أنه كلما تم تعديل أو تغيير سياق مبنى، حدث الأمر ذاته في مفهومه. قليلاً ما يستخدم تشومي مصطلح «شكل». هو يعتبر الشكل ناتجاً من تحقيق المفهوم وليس نقطة بدايته أو انطلاقه. يستثنى من ذلك عندما يفرض تعقيد برنامج، أو تناقضات مفهوم، اختيار تجريد هندسي كأصل للمفهوم. هذه حالة مفاهيم مدن خطية، أو متحدة المركز، أو شطرنجية. أطلق تشومي على هذه الحالة تعبير «شكل – مفهوم»، أي شكل يولد مفهوماً أو مفهوم يولد شكلاً، بذلك يعزز أحدهما الآخر. تنطلق مشاريع عمرانية ومعمارية عدة لتشومي من تجريد هندسي ينسجم بعدئذ مع الخصوصية الجغرافية أو الثقافية للموقع الذي يوجد فيه المشروع. نجد ذلك في مشروعاته العمرانية «بارك دي لا فيليت» في باريس و «المدينة البيضاوية» في سان دومينغ، كما نجده في مشروعاته المعمارية لمتحف «بارك إليسيا» في فرنسا وقاعة «كارنال» للفنون في سويسرا، وحتى في التصميم المعماري لحديقة الحيوان الجديدة في باريس.