لا تتوقف سامية عن الشكوى لزوجها من أنها لا ترى ابنها أحمد طوال اليوم، غير تلك الدقائق التي يقضيها في تناول الطعام مع الأسرة شارد الذهن وهو يطالع «الأيباد» خاصته. ولا تمل سامية من النداء يومياً على ابنها لحضور مأدبة الغداء، رغم انزعاج إخوته وتأففهم من كثرة إلحاحها في ذلك. لكن أحمد الذي يظهر غضباً وهو يستجيب لأمه للخلاص من إلحاحها، يتذرع بأنه يجري بحثاً عن مواضيع طُلبت منه في الجامعة. وحده أيهم يعرف حقيقة أن أخيه لا يكف عن التواجد على الشبكة العنكبوتية مع زملائه وزميلاته في أيام الثانوية العامة، والذين شردتهم الحياة إلى أقاصي الأرض طلباً للعلم. حال سامية لا يختلف كثيراً عن حال فاطمة وأيمن اللذين لم تعطهم الحياة سوى نادر، الذي يشكل لهم كل حياتهم، ولا يشكلون بالنسبة إليه غير أنهما والداه، اللذان لا يكاد يراهما من دون أن يكون محكماً نظره على هاتفه الذكي طوال الوقت. الخمسيني أيمن يتندر على شكل الحياة الأسرية التي يعيشها وزوجته، ويتذكر الوقت الذي كان يلازم فيه والده في غرفة المعيشة طوال السهرة في حضور الأخبار والمسلسلات وتبادل الحديث حول الأقارب والمعارف، مؤكداً انه لا يعرف كيف يفكر ابنه: «هل هو مثلاً مع الربيع العربي أم ضده، مع الإخوان أم الحكومة؟». وغالباً ما يضطر أيمن إلى سؤال أصدقاء ابنه عن المكان الذي سيلتقون به، وبخاصة أيام الجمعة، التي باتت تشكل منطلقاً للحراك الشعبي الأردني، من تنظيم مسيرات مطالبة بالإصلاح فيه، خوفاً عليه من المشاركة في المسيرات، فهو كما يقول «الحيلة». المفارقة المدهشة في ثورة الاتصالات أنها قرّبت المتباعدين وأبعدت المتقاربين، فالمرء يتواصل بانسيابية واستمتاع مع أشخاص من أقاصي الأرض، ويخصص لذلك أوقاتاً غالية، ولكنه يستثقل أن يمر على أمه للاطمئنان عليها، أو أن يمنح أبناءه ساعة من نهار يتعارفون خلالها، أو أن يفارق مقعده ليتنزه مع أصدقائه الحقيقيين. وتقول عبير (40 سنة): «رغم علمي أن زوجي لا يستخدم الإنترنت لدخول مواقع سيئة، لكنني أكره هذه الشبكة لأنها سلبت أسرتي لحظات الاجتماع الدافئة الجميلة». وتوضح أن زوجها «يحب الجلوس طويلاً على الإنترنت، فعندما يأتي من عمله الطويل، يتناول الطعام بسرعة، ليهرول إلى الكمبيوتر ويفتح الإنترنت، وهو مغرم بالمنتديات الحوارية التي يشارك فيها مشاركات رائعة، وينصح الآخرين، ولكن أنا وأبناءه أحوج إليه من غيرنا». وتتابع: «أتذكر حياتي قبل اختراع الهاتف المحمول والإنترنت، كانت أكثر سعادة وهدوءًا وتواصلاً، فوسائل الاتصال الفظيعة هذه قطعت الصلات بين أفراد الأسرة والأشخاص المقرّبين لمصلحة عالم وهمي». وبحسب أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة اليرموك الدكتور عدنان العتوم، فإن «الاستخدام الفردي للحواسيب والإنترنت، يعزّز الرغبة والميل للوحدة والعزلة للمراهقين والشباب ممّا يقلّل فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي الذي لا يقل أهمية عن النمو المعرفي وحبّ الاستطلاع والاستكشاف». ويوضح أن «بعض الدراسات الأولية تشير إلى أن استخدام الإنترنت يعرّض الأطفال والمراهقين إلى مواد ومعلومات خيالية وغير واقعية ما يعيق تفكيرهم وتكيّفهم وينمّي بعض الأفكار غير العقلانية، وخصوصاً ما يتصل منها بنمط العلاقات الشخصية وأنماط الحياة والعادات والتقاليد السائدة في المجتمعات الأخرى». ويبين أن «الإنترنت تحوّل إلى عامل مساعد في مجالات الحياة الواسعة في تقوية الفجوة بين الأجيال وبخاصة بما يتعلق بثقافة الكمبيوتر والاتصال مع العالم الخارجي، بل إن كثيرين من الناس الذين لا يتمتعون بميزة استخدام الإنترنت أصبحوا عرضة للاتهام بالتخلف والغباء ما يساعد على تطوير نموذج من الصراع الاجتماعي والثقافي بين الأجيال أو شرائح المجتمع أو بين الصغار والكبار أو الأبناء والآباء». وتؤكد الباحثة النفسية أميمة التميمي أن الإدمان «لا يقتصر على تعاطي مواد لها تأثير معين في الجسم، وإنما هو حالة الاعتمادية وعدم الاستغناء عن شيء ما، والشعور بالحاجة إلى المزيد لحصول الإشباع، وترتب اضطرابات في السلوك. وبالتالي فإنّ الحد الفاصل بين إيجابية وسائل الاتصال الحديثة وسلبيتها يتحدّد وفقاً لطبيعة الاستعمال وإذا ما كان في الحدود الطبيعية أم إدماناً».