يسترجع التشيليّ إيرنان ريبيرا لتيلير في روايته «راوية الأفلام»، (ترجمة صالح علماني، دار بلومزبري-قطر 2012) ذكريات دور السينما في أوج مجدها في أميركا اللاتينيّة، عبر سرده حكاية ماريا مارغريتا، وهي فتاة يافعة من إحدى القرى الصغيرة بتشيلي، اشتهرت بقدرتها الآسرة على إعادة سرد قصص الأفلام، فكلّما عرض فيلم جديد في سينما القرية، أعطت لها أسرتها النقود لكي تشاهده، ومن ثمّ تعود لتحكيه لهم بطريقتها الجذّابة. يصوّر الروائيّ الحياة في معسكر يقع في منطقة البامبا، حيث بيوت المعسكر تحدّد بدقّة توزّع الطبقات الاجتماعيّة الثلاث السائدة، بيوت صفيح التوتياء للعمّال، وبيوت الطين للموظّفين، والشاليهات الضخمة للأجانب. كان والد مارليا عاملاً، وكانت هي تتماهى في تصرّفاتها وسلوكيّاتها مع الذكور، كونها ترّبت وعاشت في أسرة مكّونة من خمسة إخوة أربعة ذكور إضافة إليها، كانت تقلّدهم في كلّ شيء. تجثم على صدور الأسرى ذكرى الأمّ الغائبة الهاربة، التي يكون مجرّد ذكر اسمها في البيت مجلبة لكارثة على الأب الذي آلمته خيانتها وتركها له ولأبنائهما بعد أن أصبح مقعداً إثر حادثة ألمّت به. وقد كان يكبرها بأكثر من خمس وعشرين سنة. ولأنّ أوضاع الأسرة كانت بائسة، وكان الأب عاشقاً للسينما، ولم يكن بإمكانه الذهاب إليها، فقد كان يكلّف كلّ مرّة أحد أبنائه بالذهاب إلى السينما ومن ثمّ رواية الفيلم بعد العودة، ووصل إلى إجراء قرعة لانتخاب أفضل راوٍ بينهم، ووقع الاختيار على ماريا مارغريتا التي تفوّقت على الجميع بروايتها للافتة وبراعتها واتقانها. بدأت تروي الأفلام لأفراد الأسرة المجتمعة الذين ينتظرونها متلهّفين لروايتها، وهي تحاول ألا تنسى أيّ تفصيل، فذاع صيتها بعد ذلك كأفضل راوية أفلام في المعسكر المنجميّ كلّه. تتذكّر ماريا مارغريتا حين كانت تزور السينما سابقاً برفقة أمّها وأبيها، كيف كانت القاعة تبعث فيها الافتتان، وتبدو لها أشبه بمغارة غامضة سرّيّة وغير مكتشفة على الدوام، كان يخامرها الوهم بالانتقال من عالم الواقع الفظّ إلى عالم سحريّ، وذلك بمجرّد اجتيازها ستائر الباب المخمليّة السميكة. كما كانت تبعث فيها السحر والجنون كأمّها. كانت ماريا مارغريتا تودّ أن تكون شيئاً آخر في الحياة لا تدري ما هو، وكانت في ذلك تشبه أمّها التي لم تكن راضية عن أيّ شيء قطّ، تبدّل تسريحة شعرها على الدوام، تجرّب أساليب مكياج جديدة، وتتدرّب على إيماءات ووقفات مختلفة قبالة المرآة، وتكرّر عدم رضاها بواقعها، ورغبتها في أن تصبح نجمة. عندما أصبحت مشهورة اتّخذت لنفسها اسماً فنّيّاً وهو الحوريّة ديلسين. كانت تمثّل الفيلم وهي ترويه، تعيشه بمتعة، وكان الجميع يستمتعون بأدائها، ومع مرور الوقت لم تعد تكتفي بالإيماءات والحركات وتبدّلات الصوت، بل أضافت عناصر خارجيّة كما في المسرح، كبعض الأدوات والثياب والإكسسوارات. تختلق الكثير من الأحداث في الأفلام التي تخترعها وتركّب لها القصص لترويها. تظنّ أنّه كان لها في العمق روح مدبّرة مكائد، لأنّها كانت تستطيع اختلاق حبكة وتخيّل تفاصيل قصّة متكاملة عبر رؤية بضع صور فقط. كانت تتمتّع بمَلَكة التركيز وتعدّ نفسها محصّنة ضدّ الآخرين وابتذالهم في السينما. وبعد أن ذاع صيتها، وتوافد للاستماع إليها الكثيرون، كانت تشعر بفتنتها وتأثيرها وإبهارها للجمهور، ما دفع أهلها إلى التفكير بتقاضي تبرّع من قبل المتفرّجين الذين يستمتعون باستعراضها الفنّيّ، وبدأت التحضيرات لتعديل أثاث البيت بحيث يتحوّل إلى قاعة فرجة. يحدث لها أن تخلط بين الواقع والأفلام لكثرة ما شاهدة من أفلام وروتها، كانت تكلّف نفسها مشقّة في تذكّر إذا ما كانت قد عاشت هذا الحدث أو ذاك، أم أنّها رأته معروضاً على الشاشة، أم أنّها حلمت به. إذ كان يحدث لها أن تخلط بين أحلامها الخاصّة ومشاهد من الأفلام، وكان ذلك الشيء يحدث مع أجمل ذكرياتها عن أمّها، حيث صور اللحظات السعيدة التي عاشتها بجانبها راحت تخفت في ذاكرتها وتتلاشى بصورة لا رجعة عنها كمشاهد من فيلم قديم. تقول إنّ رواية فيلم هي مثل رواية حلم، ورواية حياة هي مثل رواية حلم أو فيلم. ازدادت شهرتها وتنامت إلى درجة صار بعض الناس يدعونها لتروي لهم أفلاماً في بيوتهم مقابل مبالغ معيّنة، لكنّ ذلك تسبّب لها بمشكلة كبيرة، وبخاصّة مع المرابي الذي اعتدى عليها، وكتمت الأمر عن الجميع إلى أن صارحت أخاها الذي انتقم من المرابي وقتله. كانت السينما هي المتنفَّس الوحيد لسكّان المعسكر، اكتشفت من خلال الممارسة أنّ الناس في ذلك الحين يرغبون في أن تُروَى لهم قصص، وأنّهم يريدون الخروج لحظات من الواقع والعيش في تلك العوالم الخياليّة التي تقدّمها الأفلام والحكايات، بل إنّهم يرغبون أن تُروَى لهم أكاذيب على أن تُروَى بصورة جيّدة، ومن هنا يتكشّف سرّ نجاح المحتالين والنصّابين الماهرين في الكلام. تحوّلت في نظر الجميع إلى صانعة أوهام، إلى نوع من الحوريّات، كانت روايتها للأفلام تخرجهم من ذاك العدم الفظّ الذي تعنيه الصحراء، وتنقلهم ولو لوقت قصير إلى عوالم بديعة مليئة بالحبّ والأحلام والمغامرات، وبدلاً من رؤية تلك العوالم على شاشة السينما، كان بإمكانهم تخيّلها على هواهم. تروي تفتّت الأسرة، وتوجّه كلّ واحد منهم في اتّجاه بعد موت الأب، بقيت وحيدة في البيت الذي تكرّم عليها المدير بشرط أن تصبح عشيقته. اكتشفت فيه صورة أبيها العاجز، تذكّرت أمّها التي كانت تلعب هذا الدور قبلها. وكانت الضربة القاضية لها وصول أوّل جهاز تلفزيون إلى المعسكر وقضائه على السينما حينذاك لفترة. ثمّ تتالت عليها المصائب، اعتقل أخوها بعد اعترافه بقتله للمرابي. وكان ذلك سبباً مساعداً في تحديد مصيرها. اصبحت بلا بيت، وعرضة لخطر البقاء بلا عمل، أدركت أنّ الانبهار بالتلفزيون سيتبدّد وأنّ الناس لا بدّ أن يعودوا إلى السينما لأنّها ساحرة وفاتنة لا تُضاهَى... تتزامن مآسيها الشخصيّة مع متغيّرات عالميّة، حيث بدأ ظهور الهيبيّين، ووصل الإنسان إلى القمر، ووصل سلفادور دالي إلى السلطة، ومرّ فيدل كاسترو من الشارع الرئيسيّ للمعسكر، ووقع انقلاب الجنرال بينوشيه العسكريّ، واختفى القطار واختفت الثقة. انتحرت أمّها. رحل المدير وتركها وحيدة، أُغلِق المركز وغادر الناس جميعاً... تظلّ تعيش وحيدة في قرية شبحيّة، تتدبّر أمرها بالعمل كدليل للزائرين كما تعرض بعض الكتب والصور وبعض الأشياء للبيع. كان القادمون يستغربون من كيفيّة العيش في ذاك المكان الذي يصفونه بأنّه أسوأ من الجحيم، في حين أنّها كانت تراه فردوساً. في النهاية تتكتّم حادثة مجيء أمّها قبل انتحارها إلى القرية مع فرقة موسيقيّة متجوّلة، حينذاك كانت قد بكت بكاء مريراً على أمّها التي كانت قد أصبحت راقصة، ورفضت ماريا الذهاب لرؤيتها، كما رفضت فتح الباب لها حين زارت البيت، ووقفت بالباب طويلاً تناجيها وتتوسّل إليها أن تفتحه، وأدركت أنّهما كانتا حلمين مقطوعين، وكأنّهما وحدهما على جانبي العالم.