ربما غاب عن أذهان كثيرين أن فكرة إنتاج سيّارة تعمل بالكهرباء، ليست بالجديدة على صناعة السيّارات، بل سبقت اختراع أول سيّارة تعمل على البنزين، بخمس سنوات، إذ صُنّعت سيّارة أولى تعمل بالكهرباء عام 1881، قبل أن يخترع الألماني كارل بِنز محرّكاً للسيّارة يعمل على مادة البنزين، أحد مشتقات النفط، وأطلق على السيّارة اسم «مرسيدس» الذائع الشهرة. وآنذاك، واجهت سيّارة الكهرباء مصاعب جمّة، خصوصاً ما اتّصل بصنع بطاريات تقدر على تسيير السيّارة مسافات كبيرة، إضافة إلى متاعب تقنية ولوجستية متنوّعة. وسرعان ما ساد الإحباط بين من آمنوا بفكرة التسيير الكهربائي قبل 131 سنة. وسقطت تلك الفكرة، على رغم اعتبارها ثورة علمية- تقنية. عشر سنوات أُخَر دار الزمان دورة كبرى. وعادت الفكرة ذاتها بعد 13 عقداً من الزمن لتحتل النفوس والقلوب، في ظل ظروف وشروط أفضل على خلفية نجاحات علمية وتقنية متقدمة أنجزت خلال هذه العقود. وكذلك تزايد وعي الناس بأهمية الحفاظ على البيئة والمناخ، وحمايتهما من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تنجم عن استخدام الوقود الأحفوري في السيّارات. وشجّعت هذه الأمور العلماء والمخترعين على الانخراط في ثورة علمية- تقنية تتمثل في صنع سيّارة تسير بالكهرباء، تكون خالية من التلوّث. وقبل قرابة ثلاثة أعوام، كانت آمال الجميع كبيرة جداً عندما توجّهت شركات تصنيع السيّارات إلى تطوير بطاريات قادرة على أن تسير بالسيّارة إلى مسافات بعيدة. ولاقى هذا التوجّه دعماً حكومياً قوياً. لم يمض وقت طويل حتى ارتطمت هذه الشركات، مع كل من ساهم في تطوير البطاريات الموعودة، بالحائط التقني المسدود الذي واجه سيّارة الكهرباء في أواخر القرن التاسع عشر. ووجّه عجز الفكر البشري عن حل هذه المعضلة العلمية، ضربة قاصمة إلى من اعتقدوا بقرب انبلاج عصر سيّارة الكهرباء الصديقة للبيئة، وأن مرحلة علمية ثورية جديدة بدأت في حياة البشرية. وبات السؤال المطروح الآن على من يدعم هذا الهدف هو: ما العمل؟ خلال مرحلة الحماسة والنشاط الأولى التي أعقبت تجدّد الاقتناع بفكرة سيّارة الكهرباء، سارعت شركات السيّارات ومراكز البحوث الخاصة والرسميّة، إلى تخصيص عشرات بلايين اليورو للوصول إلى الاختراق المنشود. في المقابل، بدت النتائج التي ظهرت إثر منافسة دولية شديدة، مخيّبة للآمال إلى حد كبير، خصوصاً مع إخفاق الآمال التي عقدها البحّاثة على مادة «ليثيون إيونن» بتطوير بطارية تسمح للسيّارة بقطع مسافة تزيد وسطياً على 120 كيلومتراً. وما لبث مسؤولو شركات السيّارات أن خفضوا من توقعاتهم المعلنة، كما حصل في ألمانيا أخيراً، مبيّنين أن تحقيق الاختراق المنشود يتطلب عشر سنوات أخرى. ويعني هذا قبل كل شيء تأخّر إنجاز خطة الحكومة الألمانية التي حملت شعار «التسيير الكهربائي»، وخصصت لبحوثها بليوني يورو بهدف رؤية مليون سيّارة كهربائية و «هايبرد» تسير في شوارع البلاد بحلول عام 2020. واستطراداً، لا يزيد عدد هذه السيّارات حالياً على ال52 ألفاً من أصل ما يزيد على 45 مليون سيّارة ركاب في ألمانيا. شكوك الصين كشفت شركة إنتاج الطاقة «إر في إي» الألمانية في حزيران (يونيو) الماضي أنها أوقفت تنفيذ مشروع ينفّذ بالتعاون مع شركة «بيد» الصينية، لتصنيع أعمدة شحن بطاريات سيّارات الكهرباء. وأوقفت الشركة الألمانية عينها خطة لنشر هذه الأعمدة في البلاد، بعد أن نصبت 1000 عمود، استناداً إلى تقديراتها بأن هذا النموذج لن يكون مُربِحاً. كذلك تخلّت شركة سيّارات «أودي» الألمانية عن فكرة إنتاج سيّارة كهربائية تستبدل بها نموذجها التقليدي «أ 2»، مُبيّنة أنها تبحث الآن عن بديل آخر، ربما تمثّل في محرّك هجين يمزج بطارية كهرباء مع محرك وقود نفطي تقليدي. في هذا السياق، ذكرت شركة «أوبل» أنها كبحت أيضاً خطتها لإنتاج سيّارة كهربائية صغيرة، بعدما تبين أن الطلب عليها لن يكون كبيراً. وتشهد صناعة السيّارات في الصين تراجعاً مماثلاً. ويبدو مؤكداً أن موقف الرأي العام الصيني متشكّك وحذر من السيّارة الكهربائية التي يبلغ سعرها أكثر من ضعفي ثمن السيّارة العادية على الأقل، إضافة إلى أنها لا تغني عن سيّارة وقود النفط للمهمات الطويلة. ولم تنفع الحوافز المادية التي وفرتها الحكومة الصينية في تغيير موقف عدد كبير من الناس حتى الآن. وعلى عكس الصين، تبدي اليابان والولايات المتحدة انفتاحاً على سيّارة الكهرباء. في المقابل، وصف يان ترينكر، رئيس المجلس الاستشاري ل «الرابطة الألمانية لصناعة المحركات الكهربائية»، النماذج المقترحة لهياكل سيّارات الكهرباء بأنها «قبيحة وباهظة الثمن». وتكمن المشكلة الأساسية التي تواجه تسويق مركبات الكهرباء في «عدم وجود عروض تتناسب مع حاجة الأسواق والمستهلكين»، مشيراً إلى أن السيّارة الكهربائية سلعة استهلاكية، ما يفرض عليها أن تتوافق مع متطلّبات الأسواق العالمية. ورأى ترينكر ضرورة التوصّل إلى توفير مواصفات الجودة والسلامة الأمنية والتصميم المتناغم في سيّارة الكهرباء، كي تصبح بضاعة رائجة في ألمانيا وغيرها من الدول. وأوضح الخبير الألماني إيمو ميكلوفايت أن الأساس التقني لسيّارة الكهرباء لم يتغيّر منذ قرن، كما تعاني نماذج هذه المركبة من ارتفاع الكلفة وانخفاض مدى السير. وتابع: «لكن الفرق بين الأمس واليوم يتمثل في أن الموديلات الكهربائية الحديثة أكثر هدوءاً من العربات القديمة، التي غالباً ما جُهّزت بعجلات حديد تُحدث دوياً وضجيجاً صاخباً، لدى سيرها على طرق مرصوفة بالبازلت». سيّارة الغاز الطبيعي وأمام المتاعب التي واجهها العاملون في مجال «التسيير الكهربائي»، بدأ قسم منهم يلتفت أكثر إلى السيّارات التي تعمل على الغاز الطبيعي، وهو وقود يُنظر إليه بوصفه صديقاً للبيئة إلى حد كبير. ومنذ عقدين، خصوصاً بعد اكتشاف حقول ضخمة منه في دول عدّة، أصبح الغاز من أكثر مصادر الطاقة الأولية نمواً بفضل خصائصه ومزاياه. ويُعتَبر الغاز الطبيعي من أكثر أشكال الوقود نظافة بسبب انخفاض كمية المُلوّثات التي تنبعث منه أثناء احتراقه وقوداً في المحركات. وحاضراً، يمثّل الغاز الطبيعي قرابة 2 في المئة من مجمل الطاقات المستخدمة في وسائل النقل، على رغم أن تقنيات استخدامه أصبحت متاحة منذ أواسط القرن العشرين. وفي الآونة الأخير، تزايد عدد السيّارات العاملة بالغاز الطبيعي بصورة مطّردة، خصوصاً في تركيا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وتجاوز عددها عالمياً 7 ملايين سيّارة. وهناك أصناف عدة من الغاز موضوعة قيد الخدمة حالياً، أهمها «غاز البروبان» و «الغاز المضغوط» و «الغاز المُسال». ويمكن لسيّارة الغاز أن تكون البديل الأفضل عن السيّارة الكهربائية، خصوصاً في حال لم يتوصل العلماء والباحثون إلى تحقيق الاختراق المنشود في مسألة البطاريات. في المقابل، هناك مشكلة تتمثل في سعر الغاز الذي كان متدنياً بصورة ملحوظة عن سعر النفط، لكنه ارتفع كثيراً في السنوات الأخيرة بعد أن تمكّن مصدّروه وموزعوه من فرض ربط ثمنه بثمن النفط. نماذج الحاضر أعلنت شركة «دايملر» الألمانية لتصنيع السيّارات عن بدء انتاج نسخة كهربائية من سيّارة «سمارت فورتو» في مدينة «هامبش» الفرنسية، مُشيرة إلى قرب طرح هذه السيّارة للعملاء الأوروبيين، في آخر السنة الجارية. وكذلك بيّنت «دايملر» انها استثمرت قرابة 200 مليون يورو في تحديث مصنعها الفرنسي وتوسيعه. وتحتوي سيّارة «سمارت فورتو» الصغيرة على مقعدين، وتبلغ قوّتها 75 حصاناً، وتصل سرعتها إلى 125 كيلومتراً في الساعة، وتقطع مسافة تصل إلى 145 كلم كحد أقصى. وتتناسب هذه السيّارة مع ظروف المدن بصورة أساسية، بسبب قصر المسافات. ويمكن المشترين شراء أو تمويل أو تأجير هذه السيّارة التي يبلغ سعرها 18910 يورو (ما يعادل 23620 دولاراً) مع دفع 65 يورو (81 دولار) شهرياً رسم استئجار للبطارية. في سياق مماثل، وعدت شركة «تيسلا» لتصنيع السيّارات الكهربائية بأن تدفع الى السوق قريباً بنموذجها الأكثر طموحاً، وهو سيّارة صالون بسبعة مقاعد، وبقدرة تنقّل تصل إلى 500 كيلومتر بفضل بطارية ضخمة من الليثيوم المتأيّن. ويُتوقّع أن يلامس سعرها سبعين ألف يورو، أو ما يزيد على مئة ألف دولار. لذا، قرّرت الشركة الاقتصار على انتاج ألف وحدة منها، على أن تبدأ في وقت لاحق الانتاج التجاري لنسخة أخفّ من السيّارة عينها، تحتوي بطارية أصغر حجماً بقدرة 40 كيلوواط ومدى غير قصير، مع سعر يصل إلى 47 ألف دولار. وبحسب رئيس «تيسلا موتورز» المهندس إيلون ماسك، فإن السيّارة هذه «هي أفضل سيّارة عالمياً في ما يتعلق بالأداء والتعامل والسلامة والتشغيل والمظهر الخارجي». وتعطي هذه النماذج انطباعاً بأن تحدي سيّارة الكهرباء ما زال مستمراً، إذ قرّرت شركات سيّارات عدّة ولوج هذا الباب مع استعمال سياسة النفس الطويل، نظراً الى قناعتها بأن الحل التقني المطلوب سيأتي لا محالة، حتى لو تطلّب الأمر استمرار البحوث والتجارب لما يزيد على عقد من الزمن. وكان لافتاً أن الاتجاه الأقوى في ألمانيا حالياً هو انتاج سيّارات «هايبرد» كمرحلة أولى، بهدف تجاوز مسألة العجز عن تحقيق اختراق علمي تاريخي حالياً، وأيضاً للحاق بصناعة محركات ال «هايبرد» اليابانية التي سبقت صناعة السيّارات الألمانية بأشواط. إرادة سياسية... منقوصة في هذا الإطار، حضّت المستشارة الألمانية أنغيلا مركل مديري شركات السيّارات الألمانية في اجتماع معهم أخيراً، على اختيار هذا الحل الوسطي مُعلِنة أنها ترفض التخلي عن هدف «التسيير الكهربائي» الذي أعلنت عن رغبتها في تحقيقه مع حلول العام 2020 مهما بلغ الثمن! والمفارقة أن فكرة البطارية الكهربائية هي ألمانية الجذور أساساً، لكن صناعة السيّارات الألمانية أسدلت الستار عليها، وبقيت في الأدراج السفلى، إلى أن التقطتها شركات يابانية وبدأت انتاج سيّارات «هايبرد». وكذلك طالَب خبير السيّارات الألماني فرديناند دودنهوفر، وهو أستاذ اقتصاد السيّارات في جامعة «دويسبورغ - إسّن»، الحكومة بمنح سيّارات الكهرباء مجموعة من الأفضليات. وفي حديث مع جريدة «باسّاور نويه برسّه» قال: «يجب البحث في إمكان إعطاء سيّارات الكهرباء مستقبلاً أولوية في الدخول إلى وسط المدينة، والسير في الطرق المخصّصة للحافلات، وتخصيص أماكن مميّزة لركنها، علاوة على السماح لها بالدخول إلى الأماكن الخاضعة لحماية البيئة، وتشجيع انتاجها». وكذلك حذّر دودنهوفر من اندثار تكنولوجيا صناعة السيّارات الكهربائية قائلاً: «نشهد حالياً مرحلة وفاة السيّارة الكهربائية! وفي حال استمر الحال على ما هو عليه الآن، لن يكون بإمكاننا مشاهدة السيّارة الكهربائية بعد بضع سنوات، إلا في... المتحف». وتعليقاً على رغبة المستشارة مركل وحكومتها في انتاج قرابة مليون سيّارة كهربائية حتى العام 2020، قال: «هذا أمر غير واقعي على الإطلاق». وشدّد على أنه لا يرى وجود تقصير من جانب مُصنّعي السيّارات، مُذكّراً بأن شركات السيّارات استثمرت ما يزيد على خمسة بلايين يورو في بحوث تطوير السيّارة الكهربائية. وأضاف: «أدى مُصنّعو السيّارات واجبهم للوصول إلى الهدف السياسي المنشود، والآن جاء دور السياسيين. إذ أن الحوافز المرصودة للتشجيع على شراء هذه النوعية من السيّارات لم تأتِ بأية نتيجة». وبقول آخر، تتضمّن كلمات هذا الخبير انتقاداً مبطناً للمستشارة الألمانية الرافضة تقديم حوافز مادية للمستهلكين لشراء سيّارات الكهرباء، على رغم تبني مركل هذه السيّارات.