يصدر هذا المقال من كاتب يساري علماني غير معني بالطوائف وطقوسها وشعائرها، إلا إقراره بحق أي شخص من أي طائفة بالاعتقاد والإيمان والتعبد بحرّية من دون الاعتداء على الحيز السياسي والمجتمعي العام، واحترام هذا الحق تبعاً لما يفترض أنه مرتكز العلمانية ولب فكرتها، وحياديتها تجاه الأديان والطوائف. ينسحب ذلك على طقوس إحياء ذكرى مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب التي عشناها قبل أيام، في ما يشبه القسر، على شاشات التلفزة وفي محيط ضريح السيدة زينب في دمشق، وعبر مكبرات صوت ولافتات وشعارات تقتحم وسط بيروت وشوارعها، مع احترامنا الكامل لمكانة الإمام الحسين لدى الشيعة والمكانة التي يشغلها ويحوزها في حياتهم ومعتقداتهم. مراسم إحياء ذكرى عاشوراء، ذكرى مقتل الحسين في معركة كربلاء بالعراق، تتجاوز الديني ليصبح السياسي متناً لها في بلد الطائفية السياسية الأول في العالم العربي، عنينا لبنان، عبر تحويلها إلى مناسبة آذارية لتيار ال8 في مواجهة تيار ال14، ومناسبة للدفاع عن استقرار «سورية الأسد» ومحور الممانعة في مواجهة المؤامرة الديموقراطية عليها، والتي تلوح مع لهيب الثورة المندلعة ضد طغيان الحكم الجملكي في سورية. ... يلطم الشيعة ويبكون في حزنهم المتجدد على مقتل إمامهم، وهو حزن يختزن «إحساساً بالذنب» من أيام أسلافهم الذين امتنعوا عن نصرته في الكوفة، ليخرج مع قلة من أتباعه لملاقاة جيش الأمويين. ثمة إحساس لدى الشيعة بأن الإمام تُرك وحيداً في ثورته وكأنه سُلّم لقاتليه في كربلاء... إنّ «الثورة» على طغيان يزيد بن معاوية، والتي يفترض أن تكون حالاً إنسانية وسياسية ملهمةً للانتفاض والتمرد على كل ظلم وإجرام سلطوي معاصر لدى المؤمنين بها، يلقي بها حزب الله وأتباعه في مهب الموت الذي يقارعه السوريون في ثورتهم، مع غياب استلهامهم نموذجاً دينياً يفترض أن يكون محفزاً للانتصار للمظلوم، ورافضاً بمبدئية حالات التخلي عنه وغياب الدعم عنه وصولاً إلى تسليمه لقاتله. يحضر هذا في الثورة السورية التي يقوم «يزيد دمشق» بمحاولة إخمادها اليوم، وإن عبثاً، بينما يعيد الحزب سيناريو التسليم للقاتل قبل حوالى 14 قرناً، لكونه على الأقل يصرف النظر عن اختطاف ناشطين سوريين في بيروت فروا من بلدهم تحت وطأة القمع الأسدي لهم ولذويهم، وتسليمهم إلى السفارة السورية في لبنان. هذا ما لم يجد حزب الله حرجاً فيه عبر دعمه المتجدد للنظام السوري. يُترك الناشطون السوريون تحت رحمة الخطف أو الاعتقال والتحقيق تمهيداً لتسليمهم إلى «يزيد دمشق وعسَسه». ناشطون وكتّاب نسمع أسماءهم تأتينا من بيروت إلى دمشق عبر مواقع التواصل الاجتماعي كمختطفين على يد جهات مجهولة في لبنان. ثمة ما يدعونا للشك بأن معارضين مثلهم للنظام السوري قاموا باختطافهم وتسليمهم إلى النظام. تلك المقاربة التاريخية كفيلة بسحب بساط الانتصار للحق في الحرية والتحرر من حزب الله وكل التيار الممانع المتحالف مع النظام السوري، طالما أن الدين يحضر غطاءً لمشروع سياسي استبدادي داخلي في لبنان متحالف مع واحد من أعتى أنظمة الموت التي عرفتها المنطقة، عنينا نظام آل الأسد. وهي دلالة أخرى على توظيف الانقسامات الطائفية في لبنان في مشروع غير وطني، وعلى تغييب متعمد للجوانب النبيلة في الأديان لمصلحة توظيفها سياسياً في شكل كارثي يضع نفسه وجهاً لوجه مع قضية الحرية أولاً، وإشكالية الدولة الديموقراطية ثانياً، وهو ما قدم حزب ولاية الفقيه نموذجاً سيئاً له. باب المواربة مفتوح لدى تيارات الإسلام السياسي في مواجهة الحرية الكاملة وغير المنقوصة، من نكوص محمد مرسي في قراراته الأخيرة عن قيم وأهداف الثورة المصرية، إلى حزب الله وتلاعبه بدماء الشعب السوري. تلك الحال الأخيرة أكثر ما تهمنا كسوريين، بسبب ما يتعرض له مثقفون وناشطون سوريون من أخطار في لبنان على يد حلفاء النظام السوري وعلى رأسهم حزب الله، والمصير المعلق لأهلنا النازحين في مناطق لبنانية هرباً من البطش والقصف والبراميل المتفجرة، والتهم التي تكال للحزب بتورطه بقتل السوريين في سورية كما يفعل النظام. والأهم، كنتيجة لكل ذلك، هو مصير البلدين الجارين، سورية ولبنان، بعد انتصار الثورة السورية، والمنعكسات والنتائج السياسية لهذا الانتصار على من كانوا غير منسجمين مع قناعاتهم الدينية وأحزانهم وموقفهم الرافض للظلم والقتل الذي يفترض أنه هوية الطغاة على مر العصور، وعلى مر البلدان، من البحرين إلى سورية، مع الفارق بدرجة القمع أو الإجرام التي لن تمنع الانحياز ضد القتلة بأي حال. * كاتب سوري