في أحد تحولات الحديث الذي لا علاقة له بما أردتُ أن يتحدث عنه شرع (فارح) يحكي عن دراسته في معهد اللغة العربية في جامعة أم القرى، وآخر حديثه وأكثره غرابة بدأه بما يأتي: - أنتم أيضاً تعيشون حرباً، لكي تتأكد من معرفتي سأقول لك، لو أنك دخلت من بوابة جامعة أم القرى الشرقية فستسير مئة متر تقريباً، ثم تنعطف إلى اليسار، لتجد مبنى إحدى كليات الجامعة، ستدعه إلى يسارك وتواصل السير 50 متراً تقريباً لتدلف إلى مكتبة الجامعة. أعطاني سيجارة وأشعل أخرى ثم أكمل - يمكنني تذكّر الرفوف. أعرف أين أجد الكتّاب الروس. أغرق معهم في انهيار الأوطان، والحرب، وكبت الذاكرة، والجنون المؤدي إلى الحرية. البلَه وبعد ذلك الجرائم وعقابها، والأخوة الشياطين. تأنيب الضمير، والحساسية المفرطة إلى حد أن أي شيء يمكن أن يجرح كبرياءهم. آنذاك أنا مثلهم في حالة تشوّش. لا أعرف مَنْ أنا؟ مَن أكون أو ماذا أريد؟ أتساءل ما معنى أن يكون للإنسان ضمير؟ كيف يمكن أن يحدث هذا؟ وما الذي تفعلونه بنا أيها الناس؟ أستطيع أن أتْرك نفسي تقْتُل؛ ليس عجوزاً مرابية إنما عجوز مرابٍ ثم يُقتصّ مني وأتخلص من العالم. كان يعبّر بدقة. يعرف ما يقول، بل إنه بدا لي مفرطاً في دقته، تعرفت أمينَ المكتبة. لا يهمه سوى نادي الاتحاد. يبكي بسببه، وحينما تسأله لِمَ يبكي لا يعرف. أيتذرّع بالنادي بينما يبكي بسبب تلك الأيام التي قضاها قبل أن تتحول رغباته إلى ذكريات؟ ربما. وربما بسبب السحب السوداء التي تراكمت، وقطرات المطر التي لم تعد تهبط لتخضرّ الأرض. وعلى رغم أنني أحب الكره إلا أنني كذبت. وزعمت أنني أشجع ناديه، وهو ما دفعه إلى أن يتغاضى عن سرقات القصص والروايات الروسية التي هربت وتركتها في وطني. كان يغلف حديثه الجدي بالمزح. - تكاد تكون المكتبة خالية من الطلاب ما عدا يوم السبت. سألته عن السبب فأجاب: - لأن يوم الخميس مخصص للطالبات. شككتُ في حديثه لكنه سرعان ما بعثر شكي. - آنذاك وكما لو كنتم في حرب لم يكن أحد يعرف شيئاً عن الحب. يعرف الجميع كل شيء عن الكراهية، والمصيبة، والفراق، والموت، والحزن، والأسى واليأس. يعرفون عن كل شيء إلا عن الحب. شُوّهت حكاياته. وعَبَر المحبّون وتراجعوا أبعد فأبعد، حتى أنّ أنقى حب لم يكن سوى نكبة. لم أعلّق. فالتعليقات في مثل هذه الحالة لا عمل لها إلا تُفْقِد خيط الحكاية. - انطلاقاً من هذا الشعور الذي ولّده الجوّ العام توافد الطلاب على المكتبة للبحث عن أي أثر يمكن أن تخلّفه الطالبات. يفعلون ذلك كمَن نسي أن لسانه مقطوع. قد يجدون كلمة أو جملة أو عبارة، لكن ما إن يجدوها حتى يتذكروا أنهم بلا ألسنة. وسرعان ما يعجزون عن استخدامها. استمر يتذكّر في الوقت الذي كان فيه وجهه كباذنجانة جافة. - في هذا الجو العام واصلت القراءة. في الواقع - وحينما أتذكر الآن - كانت القراءة نصف ما أقوم به في المكتبة. أما النصف الآخر فهو أن أجد ما يدل على أثر، حذِرا مِن أن طالباً قد يقلد طالبة، لكن مع الوقت عرفت الفرق الذي يجد صداه في استخدام اللغة. وفي المناسبات التي يظهر فيها كلام أحدهما بحيث لو أن أحدهما كتب عن الآخر فسيبدو لي نشازاً. أتتكشّف بنية الذاكرة في ملامح الوجه؟! ذلك ما فكرت فيه وهو يتحدث. - ما زلت أتذكر إحدى الرسائل «أجلس تحت الشمس أفكر فيك. أختار الأيام الأكثر حرارة، ومن الأيام الساعة التي تدوخ فيها الشوارع من حرارة الشمس. أعرف أنه جنون، لكنه أسلوب يروق لي. لا شيء يثير خوفي، أو يوقف الحياة، مع أن هناك حزناً؛ لأن الشوارع تكون فارغة. إن حريتهم ملأى بالأخطار التي تهدد الجميع. أنت وأنا ونحن وكل طالب هنا». ما كان في وسعه أن يستعيد ذكرى مثلما يفعل الآن؛ فللذاكرة مبرراتها تذكّراً أو نسياناً. - أعرف أن العبارة الأخيرة وردت في مسرحية هاملت، وقد تصرّف فيها المرسل. أضاف ضمير المتكلم «أنا». هل أراد أن يتمرّد حيث لا يستطيع أحد أن يقول «أنا» إلا ويحس بأن هذه «الأنا» مشقوقة في منتصفها؟ أن يقول «أنا» في عالم رهيب الصمت، حيث لا يجيب عن كلامه أحد؟ ذلك ما لم أكن أعرفه آنذاك. لكن وإذا ما نحّيت جانباً كل ما يمكن أن تثيره هذه الرسالة الآن تبقى صورة الشاب الواقف في عزّ الظهيرة وهو يفكر في حبيبته صورة معبّرة ومثيرة. هدأ السرعة كما لو أن ما تبقى من الطريق لا يعادل ما تبقى من الحكاية. لزم المسار الأيمن، والتقط أنفاسه ثم أكمل: - خرجنا نهاية الأسبوع إلى عرفة. وكالعادة حينما يجتمع الأصدقاء تبدأ الحكايات. حدثتهم عن الرسالة. ولم يصدقوني، ليس لأن ما حدثتهم به غير معقول، إنما لأنه يبدو غير واقعي. ولكي أثبت لهم انتظرت قدوم السبت بفارغ الصبر لكي أحضر الرسالة، لكنها اختفت. لا بد من أنها وجدتْها. وربما أخذها شخص آخر. وفي كلتا الحالتين لكم أن تتصوروا الخسارة التي حدثت، حينما لا يكون هناك سوى نسخة واحدة من رسالة كتلك. سألته: هل ردّت عليه؟ - ذلك ما شغلني طوال الأسبوع. أنى لي أن أعرف؟! هناك آلاف الكتب. ربما أجدها لو عشتُ في عصر يلبي الأمنيات. لكنّ عصراً كهذا انقضى أو أنه لم يأتِ. لكي أجد الرد يجب أن يتهشم المنطق من أجل أن يبرهن الرد على وجوده. وأن يعاد تعريف الصّدفة لترادف القدر. يمكن أن يحدث في حكاية كهذه أي شيء، لذلك سألته: - أيكون أمين المكتبة هو مَن يفعل هذا؟ - سؤالك في محلة. أنا أيضاً تساءلت وهو يبحث في مجموعة من الأوراق ثم أعطاني إحداها. وقرأت «حينما يتضح أن الشمس لا تغرب ولا تشرق. تبقى في كبد السماء، فلا يوجد أمامك خيار إلا أن تخرج ليحرقك لهيبها. متى - أيتها الشمس - تأتين أمامنا لكي تعترفي بخطئك؟ وحتى يأتي ذلك اليوم سأغتنم الفرصة وأسألك: متى نلتقي؟ لا تقلق! بوسعهم أن يحصرونا في قشرة جوزة، لكنهم مخطئون لأننا - أنا وأنت - سنملك رحاباً لا يحد». على ما يبدو أن جو الرسالتين ما زال داخل (فارح) طوال الوقت الذي قضاه في الترجمة لأنه عاد إلى القول: - أخذت وقتي لكي أتأكد من أن هذا هو الرد. وقد ذُهلت من تناغمهما وتوافقهما لا سيما في الاستشهاد بهاملت في خاتمة رسالتيهما. وبدا لي أن الإيحاء بعبارة شكسبير «بوسعي أن أُحصر في قشرة جوزة، وأعد نفسي ملك الرحاب الذي لا يحد» غير قابلة للاحتمال، بحيث أن هناك تواطؤاً مخصوصاً لكي يلمّح إليها الرد، لأتورط أنا في ما لا قبل لي بفهمه. لكي يطمئن أنني صدّقته قلت: - الواقع مكتظ بحكايات لا يمكن تفسيرها. - يشبه ما حدث معي ما حكاه أرستوفانس. قال لي ذلك ثم شرع يحكي حكاية أرستوفانس عن طبيعة الحب في «مأدبة» أفلاطون، أن الأشياء والكائنات والمخلوقات كانت في الأصل كروية الشكل، لكن الآلهة؛ ولسوء سلوك الأشياء والكائنات والمخلوقات قسمتها إلى نصفين، ومنذ تلك اللحظة فإن كل نصف يحاول أن يصبح هو الكل، ولكي يصبح النصف كلاً فإنه في بحث دائم عن نصفه الآخر لتتحقق خبرتنا بالحب. ولكي يحول مشاعره إلى أفكار علّق على الحكايتين قائلاً: - من الضروري أن تعرف أن الآلهة في حكاية أرستوفانس تحولت إلى البشر في حكاية الرسالتين، ذلك أن الإله إذا كان يتفرّج فلا خيار آخر إلا أن يضع أحد ما نفسه مكانه. كنا قد وصلنا. أصرّ على أن يحمل حقيبتي إلى مدخل حوش العمارة. ناول الحارس الحقيبة ثم وقف ينظر إلي. ما الذي جعلنا نضحك من غير أن يتمكن أحدنا من التوقف؟! ما إن يهدأ هو حتى أضحك أنا من جديد. من شدة ما ضحكنا انتهى بنا الأمر إلى أن نتعانق. افترقنا وأنا أفكر في أن أجلس معه يوماً ما. لا بد من أراه مرة أخرى، ليحكي لي عن الحرب. بوسعي أن أحكي معه، وبوسعه أن يحدثني؛ لأنه يحتاج إلى من يتحدث معه، لكنه انتحر قبل أن أنفذ فكرتي. * ناقد سعودية.